
مرة أخرى، تُبرهن أحداث أيت بوكماز الأخيرة على حقيقة مريرة طالما تجاهلناها أو حاولنا التخفيف من وطأتها: الحلول الجذرية لمشاكل المواطنين تكمن في العمالات والولايات، لا في الجماعات الترابية. فالمسيرة التي شهدتها هذه المنطقة الجبلية النائية، لم تكن مجرد تعبير عن غضب محلي، بل كانت صرخة مدوية تؤكد أن المنظومة الحالية للتسيير المحلي تعاني من خلل عميق، وأن الجماعات الترابية، في غالب الأحيان، ليست سوى منصات مسرحية، وأن منتخبينها مجرد “شهود زور” وأدوات لامتصاص غضب المواطنين.
لقد تابعنا جميعًا كيف اضطر سكان أيت بوكماز إلى النزول إلى الشارع، والتعبير عن استيائهم من غياب أبسط الخدمات الأساسية، وتجاهل مطالبهم المتكررة. وهي ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تخرج فيها ساكنة منطقة معينة لتطالب بما هو حقها البديهي في العيش الكريم. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: أين دور المجالس المنتخبة؟ أين وعود المرشحين التي تملأ الساحات والشوارع قبل كل استحقاق انتخابي؟
إن ما حصل في أيت بوكماز، وغيرها من المناطق الهامشية، يؤكد أن الجماعات الترابية، بصلاحياتها الحالية ومحدودية مواردها، غالبًا ما تكون عاجزة عن تقديم الحلول الحقيقية والفعالة. فالبرامج التنموية الكبرى، والمشاريع الهيكلية التي تلامس صميم حياة المواطنين، تتطلب رؤية استراتيجية وموارد ضخمة لا تملكها الجماعات وحدها. هنا يأتي دور العمالات والولايات، التي تُشكل مستوى إداريًا أعلى، تتوفر على صلاحيات أوسع، وميزانيات أكبر، وقدرة على التنسيق بين مختلف القطاعات الحكومية والمؤسسات الفاعلة.
إن المنتخبين المحليين، الذين من المفترض أن يكونوا صوت المواطن ومعبرًا عن تطلعاته، يتحولون في كثير من الأحيان إلى مجرد واجهة، أو “شهود زور” على معاناة السكان. تتضاءل صلاحياتهم أمام تعقيدات الإجراءات البيروقراطية، وشح الموارد، وفي بعض الأحيان، غياب الإرادة الحقيقية للتغيير. يصبح دورهم مقتصرًا على استقبال الشكاوى، وتقديم وعود سرعان ما تتلاشى، أو حتى محاولة “امتصاص غضب المواطنين” عبر إجراءات ترقيعية لا تلامس جوهر المشكل.
لقد حان الوقت لإعادة النظر في فلسفة التنظيم الترابي للمغرب. يجب أن نُدرك أن تفعيل دور العمالات والولايات كمركز حقيقي لاتخاذ القرار التنموي، وتخصيص الموارد الكافية لها، هو المفتاح لتقديم حلول مستدامة وشاملة. هذا لا يعني إقصاء الجماعات الترابية، بل يجب أن تتحول إلى فاعل محلي قوي، ولكن ضمن رؤية أوسع تضعها العمالة أو الولاية، وتوفر لها الدعم والمساندة اللازمة.
إن مسيرة أيت بوكماز ليست مجرد حدث عابر، بل هي رسالة واضحة لكل الفاعلين السياسيين والإداريين. رسالة مفادها أن الوقت قد حان لتغيير المقاربة، والانتقال من الحلول السطحية إلى المعالجات العميقة، وأن الرهان الحقيقي على التنمية الشاملة يبدأ من تمكين العمالات والولايات، وجعلها المحرك الأساسي لتحقيق تطلعات المواطنين. وإلا، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، وستتكرر مسرحيات “امتصاص الغضب” في كل زاوية من زوايا هذا الوطن.