
في حوار متلفز مع المفكر الشهير عبد الله العروي، أطل المناضل الاتحادي محمد الكحص بتحليل ما زال خالدا، حول مفهوم السلطة، وكان يعني بها سلطة العقل، حيث وصف المجتمع المغربي بأنه يتجه بسرعة كبيرة نحو فقدان مفهوم سلطة العقل، يومها قال: نحن هنا لا نقصد سلطة العامل والقائد والشيخ والمقدم، غير أننا عشنا زمنا لنرى أن سلطة العامل والوالي بدأت هي الأخرى تتصدع، ولعل أبرزها ما حدث يوم عيد الأضحى، عندما تجرأ واليا فاس ومراكش على القيام بمهام دينية حكرا على أمير المؤمنين، وهو ما يعني مشاركته مهام السلطة الروحية، ما يعتبر تمردا على السلطة الدينية لأمير المؤمنين، والحال أن تاريخ المغرب حافل بهذه المظاهر، حيث شهدت البلاد تمردات عسكرية قادها عمال ورجال سلطة شكلت تهديدا حقيقيا للملكية، يستعرض هذا الملف بعضا منها.
عندما تواطأ القياد الكبار لنفي محمد الخامس
كان النظام القائم قبل فرض الحماية الفرنسية على المغرب، هو تعيين قواد بظهائر سلطانية لتسيير شؤون البلاد في مختلف المناطق، وفور فرض الحماية الفرنسية على المغرب، وباستيلاء الفرنسيين على مراكش يوم 7 شتنبر 1912، اكتشفوا عن قرب التنظيم الإداري للمناطق الجنوبية والنفوذ الكبير الذي كان يتمتع به بعض القواد الإقطاعيين هناك، وبالنظر إلى شساعة الجبهة الجنوبية وما كان يترتب عن ذلك من بعد المسافات عن نقاط الدعم العسكري، وحقنا للدماء الفرنسية، التي كانت من انشغالات ليوطي الدائمة.. لهذه الاعتبارات ارتأى الجنرال ليوطي أن يترك المناطق الجنوبية في وضع “جبهة غير مفتوحة”.. ومعنى ذلك، أن استراتيجيته على المدى القريب لم تكن ترتكز على الاكتساح العسكري بالدرجة الأولى، وإنما على “العمل السياسي” بالخصوص، وكانت هذه هي الدوافع التي جعلته يعقد تحالفات مع قواد القبائل الجنوبية ليجعل منهم حاجزا بينه وبين القبائل الثائرة أو “المنشقة”، حسب التعبير الدعائي الكولونيالي، وهذه الخطة هي ما كان ليوطي يسميها بـ”سياسة القواد الكبار”.
بعد مرور أسابيع قليلة على توقيع معاهدة فاس، بادرت القوات الاستعمارية إلى جس نبض قواد الجنوب، وما لبثت أن وجدت فيهم قابلية للتعامل مع الاحتلال، مما شجع ليوطي على التخطيط لتوجيه ضرباته العسكرية إلى المناطق الوسطى من البلاد، تاركا الجهة الجنوبية إلى حين.. وفي هذا الشأن كتب المقيم العام بتاريخ 10 يونيو 1912، مؤكدا أن اتصالات مصالحه الاستخباراتية مع قواد الجنوب كانت جد ناجحة، مشيرا إلى أنها أسفرت عن “إعلان موافقتهم على جميع النقاط المتفق عليها وتضامن مصالحهم معنا”، وكان اهتمام المخابرات الكولونيالية منصبا على المدني الكلاوي، المنحدر من قبيلة كلاوة، والذي كان سابقا الصدر الأعظم في عهد السلطان مولاي عبد الحفيظ، وعلى أخيه الأصغر التهامي الكلاوي، باشا مدينة مراكش، وعلى القائدين عبد المالك المتوكي والطيب الكندافي، بالإضافة إلى مجموعة من القواد من ذوي النفوذ المحلي المحدود أو حتى بدون نفوذ، والذين جعلتهم فرنسا يدورون في فلك “القواد الكبار”، وكان ضمن هذه الفئة الثانية قواد ألحقتهم الإقامة العامة تدريجيا برتبة “قواد الفئة الأولى”، وهم القائد العيادي، والقائد أنفلوس، والقائد حيدة ومويس.
ولولا “سياسة القواد الكبار”.. لانهار سقف نظام الحماية على رأس ليوطي إبان الحرب العالمية الأولى، وقد اعترف بنفسه بذلك عندما بعث برقية إلى باريس بتاريخ 3 يناير 1915، موضحا فيها أن أمن منطقة الجنوب المغربي بكامله كان في أيدي ستة قواد: حيدة ومويس في تارودانت، والمتوكي والكندافي في إقليم سوس، والمدني الكلاوي في الأطلس، والتهامي الكلاوي في مراكش، والعيادي في سهول الرحامنة، وأضاف مؤكدا: ((إنني أعتمد فعليا على القواد الكبار، وألاحظ أنهم يسيطرون على واجهتي الأطلس، بالرغم من العجز المفرط في أعداد قواتنا المرابطة هناك، إذ لم تبق لدينا سوى كتيبة واحدة من السنغاليين ووحدات احتياط ضعيفة)).
إن “سياسة القواد الكبار” التي اعتمدتها فرنسا في حكمها للمغرب طيلة فترة الحماية، كانت على موعد مع محطة جديدة من مسارها المظلم، فقد جندت فرنسا هذه المرة القياد الكبار بقيادة الباشا التهامي الكلاوي، ابتداء من سنة 1951، من أجل إسقاط الملكية في المغرب، وهو ما تم لها فعلا في 20 غشت 1953، حيث نجح الكلاوي في إقناع سلطات الحماية الفرنسية بنفي السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى مدغشقر، وتنصيب حليفه وحليف فرنسا محمد بن عرفة، غير أن اشتعال المقاومة المسلحة عجلت بنهاية مشروع الباشا الكلاوي وعودة السلطان محمد الخامس إلى بلده وإلى عرشه.
تمرد عدي وبيهي عامل إقليم تافيلات.. كاد أن يدخل البلاد في فوضى
لم تتوقف سياسة القواد الكبار في هذه المرحلة، بل طرح حزب الاستقلال خلال مؤتمره الاستثنائي، إحداث إطار جديد، وهو إحداث أقاليم جديدة يكون على رأسها عمال يتم تعيينهم، وكان هدف حزب الاستقلال من هذا المقترح هو إشراف وزارة الداخلية التي تضمن التحكم في العمال وتسيير الإدارة، وهي التي تعتبر في تلك المرحلة أحد أهم الوزارات، وكان القصر يرى ألا يمنحها لحزب الاستقلال إرضاء لباقي الأطراف السياسية الأخرى، وخاصة حزب الشورى والاستقلال، في حين كان حزب الاستقلال هو الآخر يعلم أن القصر لن يمنحه هذه الوزارة بأي حال من الأحوال، وهو الأمر الذي جعل المهدي بنبركة يبحث عن شخص يسهل التأثير عليه، ويكون ظاهريا مقبولا من لدن باقي المكونات السياسية، وقد وقع اختياره على الحسن اليوسي، العائد توا من المنفى، وأقنع زعماء الحزب والاتحاد المغربي للشغل بالفكرة، ويعود سبب اختياره لليوسي لأنه في نظره له علاقات قوية مع القصر، وكذلك لأنه غير قادر على القيام بهذه المهمة الصعبة، وأيضا لكونه لا يتوفر على مؤهلات تسهل عليه مهمة التسيير والإدارة، فيتسنى بذلك للحزب الولوج أو الدخول إلى المناطق الأمازيغية.
عين اليوسي وزيرا للداخلية، وكلف بتعيين عمال على الأقاليم، وكان هذا الأخير يعلم بنوايا الحزب، ذلك أن معظم عمال الأقاليم الذين اقترحهم على القصر، وبالتالي جرى تعيينهم، ليسوا كما أراد حزب الاستقلال، وبذلك دخل الحزب في صراع مع وزير الداخلية الحسن اليوسي، الذي جرى إسقاطه يوم فاتح ماي 1956، وتعويضه بالاستقلالي إدريس المحمدي، الأمر الذي أقلق عدة عمال كانوا معادين لحزب الاستقلال وكانوا يتخوفون من أن يقيلهم الوزير الجديد، غير أنه قبل تعيين الوزير الجديد كان القصر على علم مسبق بمجريات اللعبة.. فقد أقدم على إجراء مهم ما زال معمولا به إلى اليوم، وذلك بإصدار ظهيرين شريفين: الأول يتعلق بعمال الأقاليم، وهو الظهير رقم 046-56-1، المحدد للقانون الخاص بالعمال، صدر بالجريدة الرسمية بتاريخ 24 شعبان 1375هـ الموافق لـ 6 أبريل 1956، والثاني ظهير شريف رقم 047-56-1، المحدد للقانون الخاص بالقواد، صدر بالجريدة الرسمية بتاريخ 24 شعبان 1375هـ الموافق لـ 6 أبريل 1956 أيضا، ويقضي الظهيران بأنه ((يجري تعيين العمال والقياد بظهير شريف))، ومعنى هذا أنه مستقبلا لن تكون لأي وزير داخلية كان أي سلطة لتعيين العمال والقياد، وبهذا يكون القصر قد ضمن تجاوز مسؤولية أي وزير داخلية محتمل، وبسط سلطته بشكل مباشر على عمال الأقاليم والقياد، وباقي الموظفين السامين في الوزارة، وبهذا يكون قد قطع الطريق على كل من كان يرغب في السيطرة على وزارة الداخلية.
ومنذ صدور الظهير الملكي، تغير سلوك عمال الأقاليم مع وزير الداخلية الاستقلالي الجديد إدريس المحمدي.. فقد مارس عدة عمال تضييقا ممنهجا في حق المناضلين التابعين للحزب فوق نفوذهم الترابي، وساعدهم في ذلك عدة قياد. ولعل أبرز هؤلاء العمال، محمد الخياري عامل إقليم تازة، وعدي وبيهي عامل إقليم تافيلالت.. هذا الأخير دخل في صراع مباشر مع حزب الاستقلال، هذا الأخير أقدم على رفع عدة شكاوي تهم تجاوزات عامل إقليم تافيلالت إلى الملك محمد الخامس، لكن الملك رفض إدانة عدي وبيهي صراحة، في حين تطورت الأمور بعد ذلك إلى صراع مرير بين العامل وحزب الاستقلال، الذي أرسل له عدة لجان تفتيش رفض هذا الأخير استقبالهم، ثم امتد الأمر إلى خروج عدي وبيهي في تحركات علنية معادية لحزب الاستقلال، بل واحتضن عناصرا من حزب الشورى والاستقلال المعادي لحزب الاستقلال.
ورغم ذلك، ظل الملك محمد الخامس رافضا لأي تدخل، ثم ابتداء من شهر غشت 1956، بدأ عامل الإقليم الإعداد صراحة لثورة ضد حزب الاستقلال، بدأت ملامحها تتضح من خلال شرائه الأسلحة من الفرنسيين وعقد تحالفات مع حركات سياسية معادية لحزب الاستقلال، وعندما كان الملك محمد الخامس يستعد في بداية يناير للقيام برحلة إلى إيطاليا، أخبر ولي العهد بالحذر مما يحدث بين حزب الاستقلال وعامل إقليم تافيلالت، ويوم 21 يناير 1957، انطلق ما يعرف بتمرد عدي وبيهي، الذي أعلن أنه من أشد المخلصين للعرش وإنما قام بتمرده على حزب الاستقلال فقط، وأنه قام بذلك من أجل تخليص الملكية من هيمنة الحزب عليها، غير أن الأمير مولاي الحسن قاد فرق الجيش من أجل إنهاء التمرد، حيث سلم عامل الإقليم نفسه دون إطلاق رصاصة واحدة، وحكم على الرجل فيما بعد بالإعدام، ليصدر في حقه حكم بالبراءة فيما بعد، غير أنه مات مسموما.
البشير بن التهامي.. القائد الممتاز الذي أقام جمهورية لمدة أربعة أيام
هدأت الأوضاع في المغرب نسبيا، غير أن البلاد كانت على موعد بعد ثلاث سنوات فقط، مع تمرد جديد قاده رجل سلطة آخر، وهذه المرة كان قائدا ممتازا وهو البشير بن التهامي قائد بني ملال، الذي كان من كوادر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وقد بدأت القصة مع حملة اعتقالات شنتها الشرطة على الحزب الذي كان ما يزال يرأس الحكومة بقيادة عبد الله إبراهيم، حيث اتهمت الشرطة بعض أعضاء الحزب بـ”المس بسلامة الدولة، ومؤامرة تستهدف اغتيال ولي العهد، الحيازة غير الشرعية للسلاح، وتأسيس عصابة للإجرام”، وقد أثار اعتقال مناضلين من الحزب ردود أفعال من أبرزها استقالة محمد بلعربي العلوي، عضو مجلس التاج يوم 29 فبراير 1960، وفي يوم 17 مارس 1960، قام القائد الممتاز لبني ملال البشير بن التهامي، رفقة صديقه القائد محمد بن حمو الزموري، باغتيال الضابط أقبلي، المسؤول عن الأمن في الإقليم، أثناء محاولة اعتقالهما، ثم دخل القائدان المذكوران في عصيان مدني كان مخططا له من قبل، ويقول محمد بوكرين في تصريحات صحفية: ((على المستوى المحلي، قسمنا قواتنا على أربع قيادات هي أنركي وتاكلفت وآيت عبدي وتيلوكيت. كانت القيادة الفعلية للثورة ببني ملال قد اختار لها مفجروها أن تكون تحت قيادتين: الأولى بقيادة رجل السلطة آنذاك، القائد الممتاز البشير بن التهامي، والثانية بقيادة رجل السلطة الثاني، القائد محمد بن حمو الكاملي.. كنا مكلفين بإنجاح ثورة الأطلس، فيما كان آخرون مكلفون بالثورة في مناطق أخرى، وللأسف أن منطقة بني ملال وأزيلال ومنطقة مراكش فقط، من نفذت الثورة، فيما اتصل حسن الأعرج، المعروف بصفي الدين، بالمنتفضين في المناطق الأخرى من المغرب، وأعلمهم بإلغاء ذلك في آخر لحظة. ولم يمنع إلغاء الثورة في مناطق أخرى من المغرب المخططين لها في بني ملال من الاستمرار فيها، كانت العلاقات التي تربط أعضاء جيش التحرير بمنطقة مراكش قوية جدا، وكان التنسيق في فترة مقاومة الاستعمار على أشده.. ففي تلك الفترة، كان التخطيط بشكل مستمر لقيادة عمليات في الأطلس، خصوصا وأن المنطقة على تماس مباشر في دمنات والجبال المحيطة بها، بل من المناطق المحسوبة ترابيا على جهة تادلة أزيلال وأقرب وجدانيا وحركيا لمراكش من قربها من بني ملال وأزيلال)).
وأضاف محمد بوكرين في تصريحات أخرى: ((رغم كل الظروف والإمكانيات الضئيلة التي كان المنتفضون يتوفرون عليها في مواجهة جيش نظامي مدجج بجميع الأسلحة، إلا أن ذلك لم يمنع من نجاح الثورة في بدايتها، بل أقام المنتفضون جمهورية عابرة لأربعة أيام بأنركي بإقليم أزيلال تحت قيادة موحى أوحسين، في الوقت الذي كان يقود فيه الجيش الملكي الكولونيل الشنا، صهر أوفقير، ومولاي حفيظ العلوي)).
فقد كان هذا الوضع إيذانا باعتماد الملكية في عهد الملك الحسن الثاني على نوع جديد من العمال، حيث التجأ إلى قادة من الجيش لتعيينهم على رأس العمالات، حيث عين حسني بنسليمان عاملا على كل من طنجة والقنيطرة ومكناس، والكولونيل الشلواطي عاملا على إقليم وجدة، والكولونيل الطاهر أوعسو عاملا على إقليم وجدة، ومولاي حفيظ العلوي عاملا على إقليم سطات، وغيرهم من الأسماء التي تولت مناصب مدنية خلال مرحلة الستينات التي كان فيها الجيش هو العمود الفقري للنظام الملكي، غير أن ذلك لم يمنع بعض العمال من التورط في محاولات انقلابية فاشلة ضد الملك الحسن الثاني.. فقد كان الكولونيل الشلواطي متورطا في المحاولة الانقلابية الأولى بقصر الصخيرات.
قائد درب السلطان الذي تمرد على السلطة سنة 2014
ثم جاءت مرحلة حكم الملك محمد السادس، ولعل أهم ما ميزها في سلوكات رجال السلطة حالات شاذة محدودة في الزمان والمكان، ومن ضمنها تمرد قائد ملحقة درب السلطان سنة 2014 ضد عامل الإقليم، الذي أعد تقريرا يقضي بتنقيله إلى منطقة أخرى، بعد سلوكات القائد(…)، غير أن هذا الأخير لم يقبل بالأمر الواقع فدعا التجار ورجال السلطة الذين تحت إمرته، إلى تنظيم مظاهرة تطالب ببقاء القائد في مهامه، وانتهى التمرد بفصل القائد نهائيا من منصبه، ثم جاء واليا مراكش وفاس ليقوما بممارسة مهام حصرية لأمير المؤمنين.. فهل تحتاج وظيفة العامل والوالي لإعادة النظر، أم أن الأمر يتعلق بحالات معزولة ؟
أعد الملف: سعد الحمري