
ابراهيم باوش
إذا كانت مسألة إعادة كتابة تاريخ المغرب وتصحيحه مطروحة للتداول والنقاش العمومي لدى المؤسسات والمثقفين والمجتمع المدني ومؤسسات الدولة المغربية بأشكال مختلفة، فلأن ذلك التاريخ المعتمد رسميا، ربما ليس بعضه أو كله صحيحا أو أنه يقدم معطيات غير دقيقة ومشكوك في مصداقيتها، مما يستوجب تصحيحها وتدقيقها، لأن الشعب المغربي لن يقبل أبدا أن تعبث أياد أيديولوجية مشبوهة بتاريخه ورصيده التراثي وهويته الصحيحة المتراكمة منذ أزيد من ثلاثين قرنا. التشكيك في الخطاب الرسمي حول الفنون في المغرب، طالتها كذلك عوامل التشويه والتزوير والحط من قيمتها واعتبارها بدون قيمة حضارية ما دامت خارج النسق الثقافي الرسمي المعتمد.
هل لدى الموسيقى والغناء في المغرب تاريخ؟ من الواضح أن الكثير منا ليس لديه جواب مقنع. ونذهب للبحث لعل أحد المغاربة كتب عن هذا الموضوع، فعلا هناك من كتب، لكن بضعة أسطر غير وافية. يتحدثون فقط عن أحواش. وأحيدوس والروايس، أي ما نراه الٱن. لا يستقيم أي حديث عن الموسيقى في المغرب دون الاعتماد على الأصل الأمازيغي للموسيقى المغربية.
الموسيقى والغناء لدى الأمازيغ في ما قبل الميلاد والعهد المسيحي
نصادف عدة معطيات متحاملة جعلتنا نبحث عن ما كتبه عنا المؤرخون الرومان واليونان، بحثنا في كتب هيرودوت، المؤرخ اليوناني الذي عاش بين 413 و484 ق م، المعروف بلقب أب التاريخ والذي تحدث كثيرا عن الأمازيغ وسماهم الليبيون في كتابه التواريخ، والمؤرخ الروماني سالوست المزداد سنة 86 ق م والمتوفى سنة 34 ق م والذي أرخ لحرب يوݣرتن ضد روما، وبلين الأكبر المؤرخ الروماني الذي عاش بين 23 و79 م، صاحب كتاب التاريخ الطبيعي، وسترابون، الذي عاش بين 63 ق و24 م، المؤرخ والجغرافي الإغريقي الذي وصف المناطق الجغرافية والقبائل، فوجدنا أن الأمازيغ هم فعلا شعب حضارة. كان أسلافنا الأمازيغ القدامى قد اندمجوا في الحضارة الرومانية واليونانية وحضارات البحر الأبيض المتوسط الأخرى، وأخذوا منها ما يلائم حياتهم في الفكر والثقافة والسياسة وأضافوه إلى رصيدهم الخاص، حتى صار للأمازيغ أدوار هامة في دواليب روما وأثينا وقرطاجة ومصر، فبرع الأمازيغ في الآداب والفنون وعلوم أخرى، فظهرت كتابات تيرنش أفر، المزداد حوالي 190 ق م وتوفي سنة 159 ق م في تأليف المسرحيات، حيث كتب ست مسرحيات، وأبوليوس صاحب أول رواية في التاريخ، الجحش الذهبي والمؤلفات الدينية للقديس أوݣوستين ومؤلفات يوبا الثاني، كان فعل المثاقفة التي أقدم عليها الأمازيغ نوعا من التلقي من جهة وبين الأمزغة من جهة أخرى.
ينفتح الأمازيغ على حوض البحر الأبيض المتوسط الذي عرف حضارة إنسانية وتلاقحا ثقافيا وتداخلا لغويا متميزين ساهمت فيهم الشعوب والأمم المطلة على هذا المجال الشاسع، وقد خلف لنا الأمازيغ فنون النحت والرسم والكتابة على النقائش الصخرية والمسكوكات النقدية المنتشرة في كافة بلاد الأمازيغ، ومن المجحف جدا نزع اهتمام الأمازيغ بالموسيقى والغناء بلغتهم وٱلاتهم وأنماطهم الفنية واعتبارهم شعبا لا يمتلك موهبة الغناء والطرب، التي تعتبر طبيعية لدى كل الشعوب والأمم.
وتمتد معرفة الأمازيغ بالموسيقى إلى فترة تاريخية سحيقة “بدأت هذه الفترة منذ 3000 قبل الميلاد إلى 682 م، ظهرت الموسيقى الأمازيغية، وتعد الموسيقى الأمازيغية أقدم تقليد موسيقي في المغرب، كما أنها أحد الأنواع الرئيسية للموسيقى التقليدية والتي ظلت مستمرة حتى وقتنا الحالي”[1] وقد ارتبطت أنماط موسيقية أمازيغية بالمجالات الفلاحية والرعوية وموسيقى التعبد والمناسبات الاجتماعية والمجال الحربي.
كانت نوميديا تمتد من شرق المغرب إلى الجزائر وتونس وغرب ليبيا، ومن أشهر ملوكها ماسينيسا (حوالي 238-148 قبل الميلاد)، الذي مد علاقات تعاون مع روما ضد قرطاجة، وجلب العلماء والخبراء والفنانين والأدباء من اليونان إلى العاصمة سيرتا، وكان ماسينيسا معجبا بحضارة الإغريق، فأحدث جوقة موسيقية في بلاطه، وعرفت هذه المملكة الأمازيغية من خلال الشواهد والمنحوتات والنقائش ازدهار الفن الأمازيغي في ميادين العمارة والنحت والرسم والموسيقى، كما عرفت نوميديا والمناطق الأمازيغية الأخرى بسك النقود التي تحمل صور الملوك الأمازيغ، وتحدثنا كتب التاريخ أن الملك يوبا الثاني الذي عاش بين 48 ق م و-23 م، أقبل “على الموسيقى بشغف مثير، فقد اهتم بها كثيرا وخصص لها كتبا وافية وشاملة، عرف فيها بمخترعي الموسيقى، وأشار إلى طبيعة حرفتهم والآلات الموسيقية التي كانوا يستعملونها فرصد إيقاعاتها وألحانها، وفي الوقت نفسه تحدث بإسهاب عن الفنون المجاورة للموسيقى مثل الرقص والمسرح والنحت، وكان يوبا الثاني يستدعي العلماء والفنانين والأدباء من روما وأثينا ليفيدوا الأمازيغيين ويمتحون في المجال الثقافي والفن بصفة عامة والفن الموسيقي بصفة خاصة، ولقد أنشأ يوبا الثاني معهدا لتعليم الموسيقى في عاصمته القيصرية شرشال، كما ألف موسوعة موسيقية مهمة”[2]. اهتم الملك يوبا الثاني بالبحث والتأليف والٱداب والعلوم لكونه يتقن عدة لغات وتلقى دراسته لدى الرومان والإغريق، كما عشق المسرح، حيث شيد مسرحا في عاصمته القيصرية شرشال، واعتبرت فترة حكمه عصرا ذهبيا لازدهار العلوم والفنون الجميلة والعمران وقام ببناء مكتبة ضخمة في شرشال جمعت كتبا كثيرة منها موسوعته عن الرحلات والموسيقى وهي ليبيكا، وخلال فترة حكم الملك يوبا الثاني وابنه بطليموس ما بين سنة 25 ق.م و40 م شهدت وليلي ازدهارا كبيرا أهّلها لتصبح عاصمة لموريطانيا الطنجية وشيد فيها مسرحا.
وتعتبر مملكة نوميديا موطن القديس أوݣوستين الذي له إسهامات كبيرة في الفكر المسيحي القديم، ويورد محمد الدريدي، الأستاذ بالمعهد العالي للموسيقى بجامعة سوسة في تونس، من خلال مقال تحت عنوان “الموسيقى الشعبية القديمة بالبلاد التونسية بين الهيدونية والعقلانية: دراسة تاريخية توثيقية” المنشورة في العدد 45 من مجلة التقافة الشعبية، أن المؤلف الأمازيغي القديس أوݣوستين خص كتابا للموسيقى سماه «De Musica»، «رسالة في الموسيقى»، فيكتب الاستاذ محمد الدريدي “يعتبر أوغسطينوس – حسب علمنا – المؤرخ الوحيد من الأفارقة الذين خصّوا الموسيقى بكتاب في شكل محاورة بين معلم وتلميذه تعرض من خلال فصوله المتعددة إلى ماهية الموسيقى وعلاقتها باللغة، كما تعرض إلى الإيقاعات والألحان وتجاوز مفهوم الموسيقى عنده حدود التطبيقات الفنية إذ يراها معرفة نظرية فيها جملة من المعادلات الرياضية وتقوم على التناسق المستمد من المنطق العددي الذي بواسطته يُدرك العقل جمالية الموسيقى وتطرب الأذن لسماعها. كما بحث الكتاب في قواعد العَروض والإيقاعات الشعرية وعلاقتها بالمقاطع الصوتية للجمل وفيه ربط بين الشعر والموسيقى. كما عالج الكتاب مسألة الفروقات الجوهرية بين الإيقاع والعروض، وتعرض أيضا إلى علم الهرمونيقا والنسب العددية للأبعاد الموسيقية”. وكما تعرفون فالقديس أغسطين من كبار المنظرين للمسيحية، وكان آباء الكنيسة ينفرون من الآلات الموسيقية لما فيها من بقايا المظاهر الوثنية، وخصوصا الموسيقى المصاحبة للطقوس الدينية، وقد سبق أن نفر من تلك المواقف المريبة حاخامات اليهود، ثم جاء الإسلام نافرا هو الآخر من الموسيقى، لكن هذه الديانات الثلاث متفقة على خيط ناظم، هو الغناء لله بموسيقى وكلمات تليق بالله، ومن تم سار النقاش حول الموسيقى والأخلاق والتقرب إلى الله. في اعترافات القديس أوكَوستين نجد الحيرة عند هذا المسيحي الأمازيغي حين يقول “في بعض الأحيان تتملكني الرغبة في أن أطرح بعيدا عن أذني وعن الكنيسة كلها أيضا، لحن الموسيقى العذبة التي تغني بها مزامير داود غالبا، فأستعيد بذهني الدموع التي ذرفتها عند سماع أغاني كنيستك، عند بداية فترة استرجاعي لإيماني، وفي هذه اللحظة التي لا أكون فيها متأثرا بالغناء، وإنما بالشيء الذي يتضمنه الغناء، عندما تنطلق الكلمات بصوت واضح وبالتلحين المناسب، عندئذ لا يكون أمامي مفر من الاعتراف بالخير العظيم الذي يجلبه هذا الفن”[3] فالقديس أوكَوستين كان يرى في الموسيقى أداة لنشر الإيمان.
ويؤكد الأستاذ محمد الدريدي، في دراسته التاريخية التوثيقية السالفة الذكر أن الرومان والأفارقة السكان الأصليون للبلاد التونسية اعتنوا “خلال الفترة الرومانية بالمجال التكويني والتعليمي للموسيقى، إذ يذكر أوغسطينوس في كتابه «رسالة في الموسيقى» أن تعلم تقنيات العزف والغناء هو من اختصاص مجموعة من المحترفين أغلبهم من العبيد والموالي، ونفهم من خلال بعض خطبه الوعظية أن منطقة بلاريجيا قد اختصت بتعليم الرقص والموسيقى عزفا وغناء، ولعل هذه المنطقة قد عرفت وجود مدارس أو معاهد لتعليم الرقص والموسيقى غناء وعزفا”
لكن قد لا تصلنا المصادر والشواهد التي تحسم في علاقة الأمازيغ بالموسيقى والغناء والفن، ولكن قد نستنتج وجود الأنماط الفنية والأدبية من وقائع ثابتة، فالتاريخ يشهد أن الرومان أحرقوا ونهبوا مدينة قرطاجة في شمال أفريقيا سنة 203 ق.م بعد هزيمة معركة زاما خلال الحرب البونية الثالثة، فتذكر الوثائق أنه “بسبب إحراقها وخرابها لم يتمكن الباحثون من العثور على بقايا الحياة العلمية والأدبية بها”[ قرطاجنة في أربعة عصور: 37 ـ 38. ] وقد شارك ماسينيسا (202 ـ 148 ق.م) بجانب حلفائه الرومان إلا أن شغفه بالعلم والمعرفة جعله يأمر بإنقاذ ما تبقى من الكتب من مكتبة قرطاجة التي لحقتها نيران الحرب، ولوعة ماسينيسا بدور تلك الكتب في تثقيف وتنوير الشعب الأمازيغي، فأمر جنده بنقلها إلى قصور نوميديا. ماسينيسا الملك الذي كان يعمل بتقاليد الملوك اليونانيين، فأكل في الآنية الفضية والذهبية، واتخذ جوقة من الموسيقيين الإغريق في بلاطه.
من المعلوم أن كثير من الشعوب والأمم استخدمت الفن والموسيقى كأداة مقاومة ثقافية ضد الأعداء والخصوم المتربصين، ولم ينحرف الشعب الأمازيغي عن هذا النهج، حيث استعمل الموسيقى لإبراز التحضر والرقي والتمدن، وهو ما قام به الملك يوبا الثاني، بشكل نهم شمل الفنون والآداب الأخرى، ليثبت تحضر شعبه أمام روما وأثينا، ومن الواضح حسب السياق الثقافي والديني للأمازيغ القدامى أن الموسيقى والغناء خضعا للترويض حسب الحاجات المطلوبة، ومن أجل ذلك كان لزاما على الأمازيغ أن يهتموا باللحن والإيقاع المصاحب للنص الشعري بلغتهم حتى تسري في الأوساط الشعبية ويسهل انتشارها في المجتمع وفي الطقوس الدينية وأعمال السحر من أجل تطهير الذات والروح وإراحتهما لأن وقع الموسيقى وحده يستطيع الرقي بالإنسان نحو درجات النقاء والصفاء وتحقيق متعة محسوسة، وإلا فما جدوى ممارسة الموسيقى والغناء بدون أهداف. واستغل الأمازيغ في المغرب القديم تواجد المسرح كبناية والمسرح كفضاء لتقديم العروض باللغة الأمازيغية من أجل تقديم عروض مسرحية وأغان واستعراضات موسيقية، وعرفت مبان مسرحية في موقع ليكسوس الأثري وزيليس والموقع الأثري وليلي، لكن الممارسة المسرحية أخدت تتراجع مع المد الإسلامي نحو المغرب الذي يستند على المرجعية الدينية التي تمنع التمثيل. يقول الباحث سعيد بلغربي في مقال بعنوان “الأدب والحروب في المجتمع الأمازيغي القديم” منشور في الموقع الالكتروني أزيلال 24 يورد في إحدى فقراتها الملحمة الأمازيغية الوحيدة التي استطاعت أن تصلنا مدونة وكاملة والتي يقول فيها الشاعر المغربي الأمازيغي فلافيوف كريسكونيوس الذي عاش في القرن السابع الميلادي حين قال عن الحرب الليبية الرومانية: “إنني أشدو بأغنياتي لقادة الحرب ورجالها، وأغني للأمم المتوحشة وللدمار الذي تخلفه الحروب، إنني أغني للخيانة ولمصرع الرجال وما يلاقونه من عنت ومشقة، إنني أغني للكوارث التي حلت بليبيا وللعدو الذي كسرت شوكته، أغني للجوع والعطش اللذين أوقعا جيشين في إضطراب مميت” وهي خلفية لنص تاريخي يبين بكل وضوح أهمية المنظومة الأدبية والفنية التي شغلت المجتمع المدني والعسكري الأمازيغي القديم.
الموسيقى والغناء لدى الأمازيغ في العهد الاسلامي
رغم تجذر الموسيقى والفنون الأمازيغية من أحواش وأحيدوس وتيرويسا في الثقافة المغربية، إلا أن العديد من الدارسين والباحثين المغاربة لم يتطرقوا إليها في كتاباتهم، ربما احتقارا للإبداع الأمازيغي أو لأنهم يعتبرون كل ما هو أمازيغي يتموقع خارج النسق العربي والإسلامي للثقافة المغربية، في حين نجد العديد من الغربيين قد اهتموا بأوجه الثقافة والفن الأمازيغيين وكتبوا في ذلك ما كتبوا عن الأمازيغ.
استطاع الأمازيغ، من خلال ممارساتهم الفنية، إضفاء الصبغة المغربية الأمازيغية الأفريقية المتميزة على الموسيقى في المغرب وتأثيرها على كل الأنماط الوافدة من الشرق والغرب والحوض المتوسطي، والواضح أن الموسيقى الأمازيغية، في كل شمال أفريقيا، لابد أن يكون لها تأثير داخل حوض البحر المتوسط وبعض مناطق القارة الأفريقية، خصوصا في إيبيريا التي عرفت حضور الأمازيغ قبل الإسلام، وكما هو معلوم فللموسيقى ارتباط وثيق “بحياة الإنسان الطبيعية والميتافيزيقية منذ بدء الخليقة، فكانت وما تزال معيارا لحضارة الشعوب والأمم، إذ تستطيع بأدواتها التجريدية أن تعبر عن المستوى الاجتماعي والاقتصادي والفكري للإنسان”[4]
وترتبط ثقافات ولغات الشعوب بالغناء والطرب، كمظهرين من مظاهر التعبير عن الإبداع والفكر، وفي هذا الصدد يذهب المفكر حسن أوريد في مقال نشره في مجلة زمان أن “المرجح أن الثقافة الشعبية ما تزال تحمل مؤثرات تعود إلى عهود قديمة. تتوزع ضروب الغناء بين صنوف أصلية، أمازيغية بالأساس، تلاقحت مع مؤثرات وافدة، وتثاقفت، وتحولت في بعضها إلى العربية، (كالعيطة التي هي التعبير العربي لما يعرف في الأمازيغية بتازاكيت، أي التوسل”[5] وقد كان هناك اهتمام متفاوت بالموسيقى والغناء في الدول المغربية المتعاقبة، ففي زمن الدولة الموحدية التي حكمت الغرب الإسلامي، كسر الأب الروحي لهذه الدولة محمد بن عبد الله بن وكَليد بن يامزال المعروف بالمهدي بن تومرت (1077-1131) آلات الطرب والموسيقى وفرق مجالس اللهو، لأنه يراها مخالفة للشرع، بينما اهتمت الدولة المرينية بالموسيقى وأدمجتها في الحربية لتسمي النشيد الحربي أو العسكري تازوكَايتTazugayt ، وقد ذكر محمد شفيق نقلا عن ابن خلدون هذه الكلمة في المعجم العربي الأمازيغي، الجزء الثالث في مادة نشد. “النشيد الحربي. تازوكَايت ج تيزوكَايين (وقد ذكر ابن خلدون “تازوكَايت” بني مرين”[6]، ابن خلدون الذي خصص فصلا في المقدمة تحدث فيه عن صناعة الغناء في علاقته بالعمران، ويعني ابن خلدون بصناعة الغناء، أناس ممتهنين لمهنة الغناء، أي ما نسميه الآن محترفين يحترمون القواعد الجمالية المتطورة حسب الأزمان. وذكر الباحث عبد السلام الخلوفي في مقال له تحت عنوان “ازدهار الموسيقى في عهد المرينيين” منشور في جريدة المساء ليوم 28 غشت 2012 ذكر أن “من علامات ازدهار الموسيقى في عهد المرينيين والوطاسيين، استخدام الموسيقى لعلاج الأمراض العقلية والنفسية”، كما تطرق العديد من الرحالة في تدويناتهم، خلال تنقلاتهم بمناطق المغرب عن شغف المغاربة بالموسيقى والغناء، فهذا فرناندو بلديراما مرتينيث، مؤلف كتاب “خواكين غاثيل، رحالة المغرب” يسرد استكشافات وأسفار خواكين غاثيل الذي غادر برشلونة ليحل بمدينة طنجة يوم 12 مارس 1861، ويختار له اسما مغربيا هو القايد اسماعيل، وذلك في عهد الملك محمد بن عبد الرحمان، محمد الرابع الذي تولى حكم المغرب من سنة 1859 إلى سنة 1873، يتحدث عن تنظيم القائد العام لمكناس لبعض أصدقاءه جلسات سمر في رياضه “متربعين على زربية فخمة وكؤوس الشاي وأطباق الحلويات، بينما كان الموسيقيون يعزفون على الكمنجات والمغنون ينشدون، فشارك رحالتنا هكذا في حفلة ودية في الحقل يكثر ولع المغاربة بها، وهي ترق جدا للطفها ولطافتها”[7]
من هذا المنطلق، لايمكن الجزم أن الأمازيغ لم يتذوقوا الموسيقى بشكل عام، بل نجزم أنها كانت ممارسة طبيعية منطلقة من إبداع الشعب، وكل من يعتقد أن الأمازيغ شعب لا يغني ولا يبدع ولا يستعمل الموسيقى فهو واهم أو لا يفهم في سيرورة انبثاق الحضارات ورقي المهارات بالتجارب والدربة، كما لا يمكن الرضوخ للقول الذي يذهب إلى أن الموسيقى الأمازيغية لم تتطور إلا بعد إسلام الأمازيغ. والمعروف أن المغرب منذ وصول الإسلام إلى البلاد تحصن ضد الأمويين والعباسيين والأتراك ليؤسس دوله المستقلة، محافظا على هويته ومركزا على خصوصياته، وتفرده بآلاته الموسيقية الأمازيغية التي قاومت حتى وصلت إلى عهدنا الحالي. و”تعد الموسيقى من أهم تجليات الحضارة الأمازيغية إلى جانب الشعر والمسرح والرقص والتشكيل والرياضة والفنون السردية، كما تعتبر الأغنية أيضا ميسما بارزا على رسوخ معالم النهضة الثقافية الأمازيغية بشمال أفريقيا، وثراء تراثنا المحلي، وغنى فلكلورنا، وتنوع مواده ومضامينه وأشكاله وأدواته”[8].
ترتبط الممارسة الموسيقية والغناء في العديد من الأمم بشروط يجب توفرها للرقي بمستوى الفنون الغنائية، ومنها عشق الشعب لهذه الفنون وتمسكه بها، توفر الشعب على لغة خاصة به يسكب فيها أشعاره وٱلات تراثية يعزف بها ألحانه ومقاماته الموسيقية وتوفير فضاءات عامة وخاصة لممارسة تلك الموسيقى كالساحات العمومية الشائعة أو بنايات مسرحية خاصة بالتمثيل والتشخيص وتقديم عروض موسيقية من الحجم الكبير، ووجود فن معماري أصيل كقصور الحكام وقصبات كبار القوم الذين يشجعون الموسيقى والغناء والرقص ويحفزون ممارسيه من النساء والرجال قصد المزيد من الإبداع والخلق. كل هذه الشروط متوفرة في الشعب الأمازيغي ذو التاريخ الكبير، الذي تموقع في حوض البحر الابيض المتوسط، مركز الحضارة الراقية، لدى لا نشعر بأي حرج حين نعتبر الأمازيغ من الشعوب الراقية في الميادين الفنية منذ العصور القديمة إلى اليوم.
توفر الشروط السالف ذكرها خلق تنوعا في الأنماط الموسيقية والغنائية لدى سكان شمال أفريقيا وضمنها أمازيغ المغرب، الذين أبدعوا في الغناء والموسيقى والرقصات الأمازيغية، ما يجعل المتتبعين للحياة الفنية يتناولون الإبداع الأمازيغي المغربي في كافة تجلياته بالدراسة والتحليل والنقد والتتبع، كما ارتبط القول الشعري عند الإنسان مع لحظة التمكن من لغتهم وترويضها بشكل يجعلها تعبر عن مشاعره الفرحة أو القلقة، ويفرض التغني مزج ذلك الشعر مع محددات الٱلات الموسيقية من أجل استنباط اللحن الموافق للتغني بذلك الشعر من أجل تحقيق إخراج أغنية إلى الوجود تجمع بين الشعر والعزف والأداء.
تعتبر الحروب محفزا على الإبداع الفني والأدبي، وهو ما يذهب إليه الباحث سعيد بلغربي في مقاله “دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات”؛ المنشور يوم 2 أكتوبر 2014 في الموقع الالكتروني الحوار المتمدن. موبايل، حين ذكر “أن من بين أكثر العوامل المؤثرة في الحياة الأدبية للشعوب نجد الحروب والصراعات الإنسانية من أجل الحرية والحياة والبقاء. وتعد الحروب من بين أبرز الظواهر التي ألِفها المجتمع الأمازيغي، والتي أخذت جانبا كبيرا من اهتماماته في التصدي للهجمات والغارات لغاية التماس أرض آمنة وتحقيق مجتمع السلم والاستقرار، فلا يمكن أن نتصور شعبا محاربا بدون تراث أدبي مشحون بكل الانفعالات الممكنة، مخلدا لتيمات الحدث وما يوازيه من نكسات وانتصارات وإبراز لمكامن القوة والضعف. فمنطقة شمال أفريقيا شهدت توترات عديدة أفرزت إرثا أدبيا ملحميا خلد للشخصية الأمازيغية، وساهم بوضوح في قراءة خرائطها الفكرية”.
تشير النصوص التاريخية القديمة إلى أن الأمازيغ شعب محارب دفاع عن أرضه وهويته، تحدث عن شجاعتهم كل من المؤرخ هيرودوت والمؤرخ اليوناني سترابون 64 ق.م والمؤرخ اليوناني ديودور الصقلي (القرن الأول ق.م) وتحدث عنهم المؤرخ الأمازيغي كوريبوس فيصورهم لنا بقوله: “كانت تلك القبائل ـ الليبية ـ تكيل المديح لحاكمها وهي رافعة رؤوسها، فقد كانوا جنسا يتحلى بالشجاعة، ذا بأس شديد، عنيفا في الحرب.
وتستمر الثقافة الأمازيغية بنفس الوهج رغم العراقيل التي تعترض تألقها وتبؤها العالمية، وهو ما نبه الأستاذ محمد شفيق إليه منذ سنوات خلت، حين اعتبر أن “الثقافة الأمازيغية لم تنحصر، منذ ما يقارب من ثلاثة آلاف عام، في ما هو خاص بهم متوارث عندهم، بل كانت دائما “ثقافة مفتوحة” غير منغلقة على نفسها، ولكن بالضرورة لا بمحض الاختيار. ولدا ساهم “البربر” مساهمة مهمة في تشييد أركان الحضارات والثقافات الكبرى التي تعاقبت على شواطئ البحر المتوسط ابتداء من أواسط الألف الأول قبل الميلاد”[9] وإذا كان مجال الأمازيغ يمتد من مصر إلى المحيط الاطلسي، فهو مجال مفتوح كذلك على فضاء البحر الأبيض المتوسط، كما تربطه علاقات بشعوب الصحراء في الجنوب، مما يخلق تأثيرا وتأثرا على كافة الأصعدة بما فيها الموسيقى والغناء.
[1] . رانية العنوز. تاريخ الموسيقى المغربية. موقع موضوع.كوم. 20 غشت 2023
[2] . صديقي دنيا وبومعيزة ياسمينة. النخبة الفكرية في المغرب القديم. مذكرة تخرج لنيل شهادة الماستر في التاريخ. إشراف الأستاذ سعيدي سليم. جامعة 8 ماي 1945. قالمة. الجزائر. 2015-2016. ص 21
[3] . مؤسسة هنداوي . الفيلسوف وفن الموسيقى. الفصل الثاني. الموسيقى في العصور الوسطى.
[4] الموسيقى التعبيرية. د. علي عبد الله. وزارة الثقافة والإعلام. بغداد. ط1. 1997. ص 7
[5] . حسن أوريد. الأغنية المغربية كيف بدأت وكيف تطورت؟ منشورة في موقع زمان الإلكتروني بتاريخ 4 غشت 2023
[6] . محمد شفيق. لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين. مطبوعات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي. ط. 2. 2000. ص 229
[7] . فرناندو بالديراما مارتينيث. خواكين غاثيل، رحالة المغرب. دار الطباعة المغربية. تطوان. 1954. ص27
[8] . الدكتور جميل حمداوي. أضواء على الفن الأمازيغي بالمغرب” منشورات المعارف.2013. ص 31
[9] محمد شفيق. لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين. ص 51