المؤرخ محمد بن الموقت أول من سلط الضوء على ظاهرة الاحتباس الحراري في القرن 14 الهجري.
أجمع باحثون وأكاديميون وكتاب على ضرورة الاهتمام بالأعلام المغاربة والتراث الثقافي والعلمي الذي تركه هؤلاء، والحفاظ عليه من الضياع والاندثار، ونفض الغبار عنه، نظرًا للقيمة العالية والغالية لهذه الإنتاجات في شتى المجالات.
ودعا المشاركون في ندوة فكرية نظمتها «مؤسسة الموقت للعلوم والثقافة» حول كتاب «الكتابات الإصلاحية للمؤرخ والعالم المغربي محمد بن الموقت المراكشي»، أول أمس، بفضاء المكتبة الوطنية بالرباط، إلى تثمين كل هذه الإنتاجات الفكرية والمعرفية. وأكدوا أن هذا الأمر مسؤولية عامة تقع على عاتق الجميع، والمطلوب من كل المؤسسات الرسمية والمدنية والعائلية تحمل مسؤوليتها في ذلك، حتى نُنصف هذه المكانة العلمية والمعرفية للأعلام الوطنية ونبوئها المكانة التي تستحقها في المشهد الثقافي والفكري الوطني.
في بداية الندوة، التي أدارها الإعلامي والكاتب محمد برادة، تناول الكلمة عبد المنتقم الموقت، رئيس «مؤسسة الموقت للعلوم والثقافة»، الذي رحب بالحضور في هذا اللقاء العلمي، مبرزًا أن هذه المؤسسة أخذت على عاتقها الاهتمام بالدراسة الأدبية والتراثية، ودعم الأبحاث والدراسات التي تسعى لإخراج التراث الثقافي والعلمي لمحمد بن الموقت المراكشي، وكذلك إحياء الجوانب الغنية والمشرقة في التراث المغربي بصفة عامة.
وأوضح الدكتور المامون المريني، الأكاديمي والفاعل الثقافي، في مستهل أشغال الندوة، أن قضية الإصلاح هي قضية المغرب كله، الذي يحتاج إلى كل نخبه الوطنية والمحلية. وأكد أهمية البحث في الأعلام الوطنية التي اهتمت بالإصلاح، مشيرًا إلى تزايد اهتمام عائلات وأبناء هؤلاء الأعلام بهم في الآونة الأخيرة، معددًا بعض الأمثلة حول ذلك، كأبناء المختار السوسي، ابن عبد الله إبراهيم، الأستاذ الداودي، والدفالي.
وعزا المريني هذا الاهتمام إلى الطفرة الثقافية والحضارية النوعية التي نعيشها ونحن في طور بناء المغرب الذي نريده، مؤكدًا وجود صحوة فكرية وثقافية لدى النخب للاستلهام الفكري والعلمي والمعرفي من هذه الأعلام الوطنية في بناء الديمقراطية والحرية والكرامة والتنمية الشاملة ودولة الحق والقانون والمؤسسات.
وأشار المريني في حديثه عن كتاب الدكتور عبد العزيز أباية «الكتابات الإصلاحية للمؤرخ والعالم المغربي محمد بن الموقت المراكشي: السياق والمضامين والخصائص الفنية» إلى قيمته المثلى في المزاوجة بين الدراسة النقدية والمنطلقات الفكرية والفلسفية والإشارات التاريخية والفكرية والإيديولوجية.
كما سجل المريني أن قيمة الكتاب تكمن في هوس الإصلاح انطلاقًا من الأصول والجذور، بحيث كان ابن الموقت وفيًا للنهج الليبرالي الذي ظهر في مصر، لكنه تبنى ذلك في إطار المنظومة الإسلامية.
من جانبه، أشاد الدكتور عبد الوهاب الأزدي، أستاذ جامعة القاضي عياض بمراكش، بهذا الكتاب الذي هو في الأصل عبارة عن عمل أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه في سنة 2007 بجامعة القرويين، من ناحية الموضوع والمنهج والأسلوب.
وأشار الأزدي في هذه الندوة الفكرية التي حضرتها فعاليات سياسية وفكرية وأكاديمية وإعلامية ومدنية، إلى أن الكتاب بمثابة إحاطة شاملة بالتراث المغربي بصفة عامة وتراث ابن الموقت، مؤكدًا أن هذا الكتاب الأطروحة أشرفت عليه لجنة علمية مكونة من أساتذة كبار، مما يعطي لكتاب ابن الموقت قيمة كبيرة بمعايير علمية ومعرفية جيدة.
من جهته، استعرض أحمد متفكر، عميد الأبحاث التراثية في مراكش، أسماء عدد من الأعلام المغاربة الذين يعتبرون من كبار علماء المغرب، والذين لم ينالوا حقهم من الاهتمام العلمي والفكري، داعيًا إلى نفض الغبار عن منتجاتهم الفكرية والعلمية وتوثيقها حتى تعم الاستفادة منها في المستقبل القريب.
وأوضح الباحث متفكر أن ابن الموقت يعتبر واحدًا من هؤلاء العلماء، حيث ترك أكثر من 200 مؤلفًا، ولكن لا يعرف أحد عنها أي شيء، سوى 45 كتابًا موجودًا ومعروفًا. وسجل في الوقت نفسه أن المؤرخ ابن الموقت كان فريد عصره في ثقافته وفكره، حيث كان متعدد الاهتمامات بعلوم كالتاريخ والتراجم والفلك والأوبئة، محملًا الجامعة المغربية مسؤولية التكليف بدراساته ومؤلفاته.
وأكد الباحث متفكر أن ابن الموقت كان بارعًا في سر الحرف ومتعمقًا في علمه.
فيما يتعلق بمداخلة الدكتور عبد العزيز أباية، مؤلف الكتاب الذي يعتبر من الجيل الجديد من الباحثين في الدراسات الأدبية والصرف واللسانيات، فقد نوه برئيس «مؤسسة الموقت للعلوم والثقافة»، الذي هو عبد المنتقم الموقت، ليس فقط على وفاء الابن لأبيه، وإنما للغيرة الوطنية الكبيرة التي يتميز بها كمغربي وطني قح، والتي دفعته للاهتمام بالتراث العلمي والفكري للمؤرخ ابن الموقت.
اعتبر أباية أن ابن الموقت كان رجلاً موضوعيًا وحسيوبيا، كما اهتم بالبيئة والتاريخ، مشيرًا إلى أنه كان أول مفكر يسلط الضوء، في ثلاثينيات القرن الرابع عشر الهجري، على ظاهرة الاحتباس الحراري. وأشار إلى أن ما يميز الموقت، الذي كتب أيضًا في الإصلاح والزراعة والتوقيت وعدد من المجالات، هو صدق القول بكل ما للكلمة من معنى.
وسجل الدكتور أباية أن ابن الموقت انتقد الصوفية، مما جلب له الكثير من الويلات، بالرغم من أنه لم يكن يقصد التصوف بعينه وإنما بعض رجال التصوف في عصره. وأوضح في هذا السياق أن عمر ابن الموقت تميز بثلاث مراحل؛ الأولى كان فيها مهتمًا بالتصوف وكان ناصريًا، وانتقل إلى الزاوية الدرقاوية، والمرحلة الثانية تميزت بنقده اللاذع للمجتمع والتصوف، وألف العديد من الكتب منها «السفينة والقرن 14»، كما انتقد العدول والقضاة وبعض الفقهاء.
وللتعرف أكثر على هذه الشخصية السابقة لعصرها، فإن محمد بن محمد بن عبد الله بن مبارك المسفيوي المراكشي المعروف بابن المؤقت وُلد في سنة 1894م. نشأ العلامة ابن المؤقت في بيت علم ودين تحت رعاية والده الذي كان حينئذ من كبار علماء التوقيت، حيث أخذ عنه علم التوقيت بعد حفظه للقرآن الكريم، وتتلمذ على يد ثلة من الشيوخ الكبار، نذكر منهم علامة الرباط فتح الله بناني. وقد أجازه جماعة من شيوخه اعترافًا منهم بنباهته وذكائه، وقد كان المترجم وفيًا لشيوخه حين جمع أسماءهم وعرف بهم في فهرسته التي سماها «العناية الربانية في التعريف بشيوخنا من هذه الحضرة المراكشية».
عُرف عن المترجم عكوفه على المطالعة والتأليف، فكان من ثمرات ذلك مصنفات كثيرة في علوم متنوعة؛ في الفقه، والحديث، والتاريخ، وأحوال الناس، طبع منها نحو الأربعين في حياته، وأربعة منها لا تزال مخطوطة، والباقي مفقود. ومن أشهر مصنفاته المطبوعة: الرحلة المراكشية، الرحلة الأخروية، أصحاب السفينة، الجيوش الجرارة، الكشف والبيان عن حال أهل الزمان، السعادة الأبدية، تقريب الأقصى في تلخيص الاستقصا، الحق المبين شرح نظم المرشد المعين الكبير… وغير ذلك من مؤلفاته.
توفي، رحمه الله، بمدينة مراكش سنة (1369هـ/1949م)، ودفن بمقبرة باب أغمات.