
في إقليم شتوكة آيت باها، حيث التاريخ محفور في ذاكرة النضال والتضحية، يعيش الشباب اليوم مفترق طرق سياسي غير مسبوق. أكثر من 60% من الساكنة دون سن الخامسة والثلاثين، لكن حضورهم في الحياة السياسية لا يرقى إلى هذا الوزن الديمغرافي. وبين أساليب احتجاجية جديدة تتبلور في صمت، ورفض واسع للمشهد الحزبي، تُطرح أسئلة حارقة حول مستقبل المشاركة السياسية بالإقليم: هل نحن بصدد ثورة انتخابية صامتة؟ أم هو عزوف أبيض لن يزيد إلا من تعقيد الوضع؟
التصويت العقابي والعزوف الأبيض: رسائل احتجاجية متعددة الطبقات
أفرزت التجربة الانتخابية المغربية، خاصة ما بين 2011 و2021، نموذجا متراكبًا من السلوك الانتخابي، يتراوح بين التصويت العقابي والعزوف الأبيض. الأول يعكس رغبة في معاقبة الأحزاب المتورطة في التدبير الفاشل، أما الثاني فهو أكثر راديكالية، إذ يُترجم قطيعة كاملة مع المنظومة السياسية برمتها.
في شتوكة آيت باها، بدأت ملامح التصويت العقابي تظهر بوضوح، كما في انتخابات 2011 و2021. ففي الأولى، كان العقاب موجها ضد أحزاب تقليدية لصالح بديل إصلاحي وعد بالتغيير. أما في الثانية، فالعقاب شمل الجميع، وتمثل في انخفاض نسبة المشاركة وتبدل الولاءات دون قناعة حقيقية، بل فقط كرد فعل ساخط.
أسباب الغضب: بطالة، فساد، وتهميش سياسي
الغضب الشبابي في شتوكة آيت باها ليس لحظيًا، بل هو نتاج تراكمات طويلة. أولها فقدان الثقة في الأحزاب التي باتت تعيد إنتاج نفس الوجوه والخطابات. ثانيها، الفشل في الاستجابة لتحديات اجتماعية واقتصادية حارقة، أبرزها البطالة التي تمس أكثر من 22% من حاملي الشهادات، وغلاء المعيشة الذي يغذيه الاحتكار والفساد، أكثر من أي عوامل خارجية.
الفساد، بدوره، يُعد عاملاً مضاعفًا لفقدان الثقة. فالشباب يدركون تمامًا أن شعارات “محاربة الريع” لم تتجاوز سقف الحملات الانتخابية، في ظل استمرار نفس النخب، وتنامي ظواهر الزبونية والمحسوبية.
القبيلة والأعيان ومحترفو الانتخابات: ثلاثية تكرس الجمود
يُضاف إلى كل ذلك البعد البنيوي الذي يعمق من أزمة الديمقراطية التمثيلية في الإقليم. البنية القبلية لا تزال تُحدد طبيعة التصويت في العديد من المناطق، مثل بلفاع، ماسة، أو آيت عميرة. هنا، لا تُحتكم الانتخابات إلى البرامج أو الكفاءات، بل إلى الانتماءات القبلية وشبكات الولاء الاجتماعي، والتي يُديرها الأعيان مستفيدين من الزبونية والامتيازات.
وفوق هذا كله، تظهر فئة “محترفي الانتخابات” الذين يحولون العملية الانتخابية إلى سيناريو مُعد سلفًا، يعزل المنافسين غير المرغوب فيهم ويكرس استمرارية الوضع القائم.
حراك مدني تحت الرادار: صمتٌ يُربك حسابات الأحزاب
لكن رغم هذا المشهد القاتم، تظهر في الأفق ملامح تغيير صامت. فشباب الإقليم بدأوا يخلقون مساحات بديلة للتعبير والعمل، بعيدًا عن التنظيمات الحزبية. مجموعات واتساب، حملات رقمية، مقالات توعوية، ومبادرات مدنية تركز على التنمية المحلية والمساءلة الميدانية.
كما أن بعض الجمعيات المحلية بدأت تتجاوز الوساطة السياسية نحو الترافع المباشر مع الإدارات والمؤسسات، وهو مؤشر على تحول نوعي في تمثلات العمل المدني لدى جيل جديد من الفاعلين.
من السخط إلى الأمل: هل من أفق للخروج من الأزمة؟
ما يجري في شتوكة آيت باها لا يُعبر عن عزوف سلبي، بقدر ما يعكس رغبة حقيقية في بناء مشهد سياسي بديل أكثر نجاعة ومصداقية. الشباب لا يرفضون السياسة، بل يرفضون احتكارها من طرف نخب لم تعد تمثلهم.
الحل يمر من بوابة إعادة الثقة، وهذا يستوجب من الأحزاب إعادة النظر في طرق اشتغالها، وفتح المجال أمام الكفاءات الشابة، لا كمجرد واجهة انتخابية، بل كفاعلين في رسم السياسات المحلية. كما يجب تجاوز المنطق القبلي والزبوني، واعتماد منطق التقييم بالأثر: من خدم الساكنة يُكافأ، ومن خذلها يُعاقب.
في قلب إقليم شتوكة آيت باها، يتشكل بهدوء نموذج احتجاجي سياسي جديد، لا يرفع الشعارات في الشارع، بل يبني وعيًا انتخابيًا بطيئًا وعميقًا. قد لا تكون الثورة الانتخابية الصامتة قد انفجرت بعد، لكنها قادمة إذا استمرت الأحزاب في تجاهل رسائل الشباب. وحينها، لن يكون الصمت علامة على الرضا، بل صفارة إنذار أخيرة لنظام سياسي يحتاج إلى تجديد جذري، أو مواجهة موجة رفض لا رجعة فيها.