وتُقدر القيمة المالية للمعادن الثمينة التي تحتوي عليها النفايات الإلكترونية المولَّدة سنويا على الصعيد العالمي بـ14 مليار دولار. أما القيمة الإجمالية لمكونات النفايات الإلكترونية القابلة لإعادة الاستعمال بعد تدويرها فتُقدر بـ57 مليار دولار، حسب تقرير مراقبة النفايات الإلكترونية العالمي الصادر عن الأمم المتحدة سنة 2020.
وانطلاقا من هذه الأرقام، بحثنا في حجم الاستثمار في النفايات الإلكترونية والكهربائية بالمغرب، فاتّضح أن هذا القطاع لا يزال في بداياته، ويعاني من إكراهات وتحديات كبيرة تجعل النسبة الكبرى من هذه النفايات يُعاد تدويرها بشكل عشوائي في القطاع غير المهيكل. أما الشركات المتخصصة في هذا المجال، فلا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة.
يُرجع نور الدين يحياوي، مدير شركة “لوجيبرو” المتخصصة في إعادة تدوير النفايات الصناعية والإلكترونية بمدينة الدار البيضاء، ضعف الاستثمار في إعادة تدوير النفايات الإلكترونية بالمغرب إلى مجموعة من الأسباب؛ منها أن الشركات والمقاولات تفضّل بيْع متلاشياتها من الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، بعد استنفاد صلاحيتها، إلى القطاع غير المهيكل، عوض أن تسلّمها إلى الشركات المتخصصة في إعادة التدوير.
وأوضح: “نحن نقدم ثمنا رمزيا، ولا نستطيع أن ندفع ثمنا مثل الذي يشتري به العاملون في القطاع غير المهكيل؛ لأن إعادة تدوير النفايات الإلكترونية مكلّف جدا، نظرا لأن العملية تتطلب الاستعانة بآليات خاصة، وتمرّ عبر مراحل عديدة، من أجل التخلص نهائيا من خطرها على البيئة، بينما في القطاع غير المهيكل تتم معالجتها بشكل عشوائي بهدف استخراج المعادن منها فقط، ويُحرق الباقي في الهواء الطلق أو يُرمى في مطارح الأزبال”.
في ظل هذا الوضع، يضيف يحياوي، فإن المستثمرين في قطاع إعادة تدوير النفايات “لا يمكن أن يستقدموا آليات تساوي ملايين الدراهم، في الوقت الذي لا نتوصل فيه بالكميات الكافية لاستغلال هذه الآلات؛ لأن القطاع غير المهيكل يسيطر على السوق حاليا”.
ويعزو حسن مسلك، مدير مركز لتثمين النفايات الصناعية أُحدث في إطار مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في حي سيدي البرنوصي بمدينة الدار البيضاء، سبب ضعف إقبال الشركات على تسليم متلاشياتها من الأجهزة الإلكترونية والكهربائية إلى الشركات أو المراكز المتخصصة في إعادة تدوير هذا النوع من النفايات إلى قلة الوعي بخطورتها على البيئة.
ويضيف موضحا: “أغلب الشركات لا تفكر في التخلص حتى من النفايات العادية بطريقة صحيحة، لضعف وعي أصحابها بمسؤوليتهم إزاء تطوير منظومة حماية البيئة”، مشيرا إلى أن عدد الشركات الموجودة في محيط مركز الفرز الذي يديره يصل إلى 670 شركة؛ لكن عدد الشركات التي تسلم متلاشياتها للمركز لا يتعدى 52 شركة.
ويرى محمد توفيق الملوكي، عضو المكتب التنفيذي للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، أن هناك عوائق أخرى تجعل الشركات تتحفظ على تسليم الأجهزة الإلكترونية المعطلة إلى المراكز المتخصصة في إعادة تدويرها، خاصة الحواسيب، لكونها تحتوي على قاعدة معطيات تتخوف الشركات من أن يتمّ إعادة استعمالها وعدم التخلص منها بشكل آمن، معتبرا أن هذا الإشكال يعد واحدا من العراقيل التي تحد من إعادة تدوير النفايات الإلكترونية في المغرب.
ومن خلال المقابلات التي أجريناها مع عدد من الفاعلين في قطاع إعادة تدوير النفايات الإلكترونية، اتّضح أن أغلبهم يتعاملون، إلى حد الآن، مع الشركات، على الرغم من أن نسبة النفايات المدوَّرة ضعيفة جدا؛ ما يعني، عمليا، أن النفايات الإلكترونية التي يتخلص منها المواطنون تذهب، في الغالب، إما إلى القطاع غير المهيكل أو إلى مطارح النفايات.
ويشتغل حسن مسلك وزملاؤه العاملون معه في مركز لتثمين النفايات الصناعية بسيدي البرنوصي على مشروع يرمي إلى تحفيز المواطنين على التخلص من نفاياتهم الإلكترونية بشكل سليم؛ وذلك بإنشاء أكشاك مخصصة لهذا الغرض وسط الأحياء السكنية، تُجمع فيها النفايات الإلكترونية لتُنقل بعد ذلك إلى مركز الفرز والتفكيك، مع القيام بحملات تحسيسية للتوعية بخطورة هذه النفايات.
غير أن نور الدين يحياوي يرى أن إقناع المواطنين بتسليم متلاشياتهم من الأجهزة الإلكترونية، ولو بثمن رمزي، يكتنفه كثير من الصعوبات؛ لأن كثيرا منهم يفضلون بيع ما لديهم للعاملين في القطاع غير المهيكل، مقابل مبالغ مالية أعلى من التي تعْرضها الشركات، قبل أن يستدرك بأن تجاوز هذا العائق رهين برفع وعي المواطنين بخطورة النفايات الإلكترونية على البيئة والإنسان.
وأنشأت شركة “لوجيبرو” تطبيقا على الهواتف الذكية باسم E-recyclage هو الأول من نوعه في المغرب، يهدف إلى تشجيع المواطنين على عدم رمي النفايات الإلكترونية في صناديق القمامة، حيث يمكن لمستعمل التطبيق إرسال صورة الجهاز الإلكتروني الذي يريد التخلص منه إلى الشركة، ويتكلف أعوانها بتسلّم الجهاز مقابل مبلغ مالي رمزي، “فقط من أجل التحفيز على هذه الالتفاتة البيئية “Geste écologique””، يقول يحياوي.
من جهته قال عبد الرحيم لخويط، أستاذ جامعي مقيم في كندا متخصص في الهندسة المدنية وتدبير النفايات، إن الحلّ لتقليص التخلص من النفايات الإلكترونية والكهربائية في القطاع غير المهيكل أو مطارح النفايات يقتضي اللجوء إلى حلول مبتكرة مثل الضريبة الخضراء، من أجل تشجيع المستهلكين على إرجاع الأجهزة التي لم تعد قابلة للاستعمال إلى الشركات المصنّعة من أجل إعادة تدويرها.
وأوضح لخويط، في تصريح للجريدة، أن الضريبة الخضراء هي عبارة عن رسم في حدود نسبة مئوية معيّنة من قيمة المنتج الإلكتروني، يُؤديه الزبون عند شرائه للمنتَج وتُردّ إليه تلك الضريبة عند نهاية دورة ذلك المنتوج وتسليمه إلى صاحب المتجر الذي اشتراه منه أو الشركة المصنّعة، لافتا إلى أن الغاية من الضريبة الخضراء هي تحفيز المستهلكين على إرجاع المنتجات الإلكترونية إلى البائعين أو المصنّعين حتى يتم التخلص منها بطريقة علمية وهندسية عبر إعادة تدويرها.
تحديات الرقمنة
موازاة مع تسريع المغرب لانخراطه في عصر الرقمنة، فإن هذا الانخراط يطرح جملة من التحديات على مستوى الحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة؛ ذلك أن الرقمنة تعني استعمال مزيد من الأجهزة الإلكترونية، من حواسيب وهواتف وشاشات وغيرها، يضاف إلى هذا التحدي أن الأنشطة الاقتصادية بالمغرب يستحوذ عليها قطاع الخدمات، الذي يمثل 55.8 في المائة من الناتج الداخلي الخام. ويعتمد هذا القطاع، بدوره، بشكل كبير على الأجهزة الإلكترونية.
وأجمع الفاعلون الذين تحدثت إليهم الجريدة على أن مخطط “المغرب الرقمي” ينبغي أن يواكبه رفع مستوى الاهتمام بتدبير النفايات الإلكترونية، والتحسيس بخطورتها وبضرورة التخلص منها بطريقة سليمة، من أجل تفادي تداعياتها على البيئة والإنسان وتجنب الكلفة الباهظة لأضرارها.
في هذا الإطار، قال محمد توفيق الملوكي إن الدولة، من خلال الوزارة الوصية على قطاع البيئة، عليها أن توجِد إطارا تشريعيا يواكب المستجدات العالمية في مجال إعادة تدوير النفايات الإلكترونية والكهربائية نظرا للضرر الكبير الذي تُلحقه بالبيئة وبصحة الإنسان، وأن تحذو حذو الدول التي لها تجارب فضلى في مجال تدبير النفايات الإلكترونية والكهربائية، مثل دول شرق آسيا، مبرزا أن استفادة المغرب من هذه التجارب “ليست مسألة ترف فكري بل أصبحت ضرورة”.
وتفيد المعطيات الرسمية التي حصلت عليها الجريدة بأن قطاع البيئة قام بإنجاز دراسة لوضع منظومة خاصة بجمع وتثمين نفايات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية. وخُصص الجزء الأول من هذه الدراسة لتقدير كميات النفايات الإلكترونية والكهربائية المنتجة على الصعيد الوطني، وكذا جرد أهم التجارب الدولية في مجال التدبير العقلاني لهذه النفايات، واقتراح حلول ووضع سيناريوهات لمعالجتها في المغرب.
واستنادا إلى المعطيات نفسها، فإن الجزء الثاني من الدراسة تضمّن وضع مخطط عمل ومخطط مالي “Business plan”، خاص بالأجهزة المعلوماتية وأجهزة الاتصالات المستعملة، والتي تُعتبر من أهم أصناف تدبير نفايات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية؛ وذلك في ضوء سيناريو تم اختياره بتشاور مع مختلف الفاعلين المعنيين بهذا النوع من النفايات.
ويطمح المغرب إلى رفع نسبة تدوير النفايات الإلكترونية والكهربائية إلى 40 في المائة في أفق سنة 2030، كما هو محدد في الإستراتيجية الوطنية لتثمين وتقليص النفايات.
تجربة رائدة
خلْف الصورة القاتمة للنفايات الإلكترونية، هناك مبادرات رائدة استطاعت أن تحوّل هذه النفايات الخطرة إلى مصدر للأمل. في قلب مدينة الدار البيضاء يوجد مركز “Greenchip” لفرز وتفكيك النفايات الإلكترونية تابع لجمعية “الجسر”، يشتغل داخله شباب انقطعوا عن الدراسة لأسباب مختلفة؛ لكن الجمعية المذكورة استطاعت أنْ تمنح لهم فرصة أمل في حاضر ومستقبل أفضل، حيث يخضعون لتكوين مكثّف في إصلاح الأجهزة الإلكترونية المعطلة ومعالجة نفاياتها، ويستفيدون من تدريب داخل الشركات، ما يمهّد لهم الطريق للولوج إلى سوق الشغل بعد إنهاء التكوين.
داخل ورشة فرز وتفكيك وإعادة تركيب الأجهزة الإلكترونية بمركز “Greenchip”، يوجد ما يُعدّ ولا يُحصى من الحواسيب والهواتف والشاشات “وكل ما يمكن أن يخطر لك على بال من الأجهزة الإلكترونية منتهية الصلاحية”، يقول أمين خيري، المسؤول عن الورشة، موضحا أن التكوين الذي يخضع له الشبان الذين يشتغلون داخل المركز 80 في المائة منه تطبيقي، و20 في المائة نظري، ويحصلون على دبلوم معترف به من طرف الدولة ممثلة في مكتب التكوين المهني، بعد عام من التدريب.
بعد وصول الأجهزة الإلكترونية التي يتم استقدامها من الشركات التي تجمعها شَراكة مع جمعية “الجسر”، يتم فحصها وفرزها، حيث تُعزل الأجهزة القابلة للإصلاح، وبعد إصلاحها يتم تسليمها، كهِبة، إلى المدارس العمومية وإلى الجمعيات؛ بينما يتم تفكيك الأجهزة غير القابلة للإصلاح، ويُفرَز كل مكوّن من مكوّناتها، مثل البلاستيك والحديد والألومينيوم، على حدة، وتُسلَّم بعد ذلك إلى شركة “مناجم”، من أجل إعادة تدويرها للتخلص نهائيا من خطرها.
بفخر كبير، تقول وفاء برني مزوار، رئيسة جمعية “الجسر”، في تصريح للجريدةس، إن “الشباب الذين يتكوَّنون في هذا المركز يأتون إلى هنا وهم لا يعرفون شيئا لأنهم من المنقطعين عن الدراسة؛ لكنهم بعد سنة واحدة فقط من التكوين المكثف الذي يستفيدون منه يصيرون قادرين على الاندماج في سوق الشغل بسهولة”، مضيفة: “ما يؤكد هذا هو أن أغلب الشباب الذين نرسلهم إلى الشركات للتدريب لمدة ثلاثة أشهر يتم إدماجهم في تلك الشركات؛ لأنهم يتركون صورة إيجابية لدى مشغّليهم خلال فترة التدريب”.
يصل عدد المتدرّبين الذين تسهر على تكوينهم جمعية “الجسر” في مجال إصلاح وتفكيك الأجهزة الإلكترونية بمركز “Greenchip”إلى 130 متدربا في مركزيْ الدار البيضاء ووجدة. ويؤكد أمين خيري أن النتائج المحقّقة من خلال هذا الورش إيجابية؛ “لأنّ هؤلاء الشبان يخرجون من هنا بعد استكمال مدة التكوين وفي أيديهم مهنة، فضلا عن اكتساب الثقة في أنفسهم بفضل ما يراكمونه من مؤهلات وكفاءات”، مضيفا: “غايتنا لا تنحصر فقط في تيسير ولوج هؤلاء الشباب إلى سوق الشغل، بل نهدف كذلك إلى إدماجهم في المجتمع. وهكذا، نساهم في خدمة المدرسة العمومية، وخدمة البيئة في آن واحد”.
وحسب الإفادات التي قدّمتها وفاء برني مزوار، فإن نحو 70 في المائة من المتدربين المتخرجين من مركز “Greenchip”يجدون فرص عمل مباشرة بعد التخرج، ومنهم من ينشئ مقاولة ذاتية أو تعاونية، مبرزة أن ما يعطي قيمة مضافة لعملية إعادة تدوير النفايات الإلكترونية في المركز هو أن هذا المشروع هو مشروع بيئي واقتصادي واجتماعي في الآن نفسه؛ ففضلا عن حماية البيئة من مخاطر نفايات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية التي يتم التوصل بها من حوالي 100 شركة، وتوفير التدريب والإدماج المهني لـ130 شابا كل سنة في المهن الخضراء، فإن الحواسيب التي يتم إصلاحها تُمنح للمؤسسات التعليمية والجمعيات مجانا.
وأضافت برني: “لدينا لائحة من المدارس التي تطلب الحصول على حواسيب تتضمن مئات المؤسسات التعليمية. وقد قمنا، قبل أسابيع فقط، بتجهيز ثانوية بـ75 حاسوبا. هذه الحواسيب كانت ربما ستجد طريقها إلى مطرح النفايات، أو إلى القطاع غير المهيكل في أحسن الأحوال”.