العلماء والصلحاء في سوس: كيف ساهم الأمازيغ في بناء الدولة بالمغرب؟

✍️ عبدالله بوشطارت

تَشْهدُ مَناطق جَزُولة خلال هذه الأيام، جولة صوفية يقوم بها إفقيرن إيداولتيت كما يسميها الناس محليا في البوادي التي يتجولون فيها، عَبر سفرهم المقدس، وتُعرف في الادبيات المكتوبة وفي بعض السرديات التاريخية ب”طائفة إيداولتيت”. ونحبذ استعمال التسمية الأصلية والمحلية، وهي إفقيرن… هذا السفر الصوفي الذي يطوف حول مزارات الأولياء وأقطاب الصوفية في بلاد جزولة، لاسيما منها التابعة حاليا لجبل وسهل إقليم تزنيت. ويسير افقيرن في سفر ممتد على الأقدام بين الدواوير الكائنة في السفوح الجبلية الوعرة، يستضيفهم الناس في بيوتهم وفي مساجد المداشر، كما يتم ذبح الأضحية في بعض المزارات المقدسة، لاسيما منها سيدي حماد أموسى الذي يعتبر المبتدأ في هذا السفر الصوفي، سيدي حماد اعزا وسيدي سعيد أهمو وآخرون، لكن المنتهى في هذا الطواف الذي يجول بالبركة والصلاح في أرض تاكيزولت هو الزيارة والدعاء في المقام المقدس والمؤسس للرباط والولاء والصلاح في بلاد المغرب، وهو القطب الامازيغي سيدي وگاگ أوزلو اللمطي، حيث يصعد إفقيرن إلى قمة المقامات الصوفية في عمق ساحل بلاد جزولة، ثم يعودون أدراجهم في تجوالهم الصوفي نحو مواقعهم الجبلية النائية، وهذا السفر الطويل يدوم أزيد من 40 يوما.
لا يتسع المقام لخوض في أسرار ورمزيات وانثروبولوجيات هذا السفر المقدس، الحابل بالأسرار التاريخية الدفينة، والمتخم بالمعاني الصوفية والثقافية، والحامل للرسائل السياسية، التي لا يمكن إنكارها وتغييبها في تحليل سياقات تشكل هذا الطواف ومساراته وأهدافه. فمن خلال التسمية المركبة من كلمتين، إفقيرن وإيداولتيت، يظهر وجود ارتباط قوي بين الظاهرة الصوفية، والعامل السياسي المتمثل في التحالف الاجتماعي والسياسي والمجالي/ الترابي، ايداولتيت…وهو جزء عن التحالف الكبير جزولة/ أو تاكيزولت..
سواء كان سيدي حماد أموسى هو المؤسس الفعلي لهذا الحدث الصوفي العميق إفقيرن إيداولتيت، أو كانت التجربة الصوفية أقدم منه بكثير، فإن انطلاقها من محور هذ المزار المقدس بسهل تازروالت الفسيح، الذي خرجت من صلبه الدولة السملالية والتي كانت عاصمتها في إليغ بالقرب منه، وبما أن امتدادها التجوالي وهدفها الأسمى الوصول والتبرك بالمزار المقدس والقطب الكبير سيدي وگاگ اللمطي دفين أگلو، وهو المؤسس الفعلي للإمبراطورية الأمازيغية، المرابطون، والتي خلقت أول نظام سياسي مركزي بالمغرب، لازال مستمرا إلى الآن، بالرغم من تغير السلالات، وهو المعروف بنظام المخزن، وهو نظام حكم أمازيغي، اقتبسه إيزناگن/ صنهاجة من نظام المخازن الجماعية المنتشرة في بلاد الأمازيغ، أگادير/ إيگودار.. فإن هذه الخريطة الصوفية لتجوال وسفر إيداولتيت يربط دولة إيداوسملال، تازروالت، الجزولية/ الصنهاجية، بالمنبع السياسي الكبير، برباطها المقدس والمؤسس لنموذج الدولة الأولى، التي سماها الفقهاء بدولة المرابطين… لكن المؤرخون يسمونها بدولة صنهاجة، وعلى رأسهم عبدالرحمان ابن خلدون.
وانطلاقا مما سبق، فتحليل ظاهرة الفقراء/ إفقيرن، والصلحاء بشكل عام، في منطقة جزولة، بسوس الأقصى، نبتغي من خلاله تسليط الأضواء على ما نسميه باديولوجية تأسيس الدول الأمازيغية بالمغرب، وتاريخ تشكل الأفكار السياسية الأمازيغية، ومسارات تشكل الدولة وبنائها، وأسباب انهيارها وأفولها، وتحول منظومة الأفكار وأسس المشروعية السياسية في الفكر السياسي الأمازيغي من العصبية، إلى عوامل أخرى كالطرق الصوفية، والنسب الشريف… أما العصبية فهي نظرية سياسية أمازيغية تعتمد على فكرة تامونت، أو التحالف السياسي الكبير، والمعروفة بالعصبية القبلية، رغم أننا نتحفظ على هذه التسمية، لأن مفهوم القبيلة غير وارد في المرجعية الأمازيغية ولا في تاريخ المجتمعات الأمازيغية، فهو مفهوم خارجي مرتبط بسياقات تاريخية معينة، فترة ما بعد التواجد الإسلامي في شمال افريقيا. أما المفهوم الأمازيغي السائد للمجموعة البشرية هو تاوسيت، TAWSIT ⵜⴰⵡⵙⵉⵜ وهي مفهوم يعبر عن تنظيم اجتماعي وسياسي صغير مبني على الانتماء الجغرافي والبيئي والثقافي والمصلحة المشتركة، فهو تحالف يتأسس على التعاون والتضامن، ومفردة تاوسيت من أوس AWS ومنها أمياواس وتيوزي.. ووهو مصطلح ليس عرقيا وغير مرتبط بالتسلسل الأبوي والجد المشترك، كما يعبر عنه مفهوم القبيلة في المشرق.
وإذا كانت الدول الأمازيغية الكبرى، تأسست بفعل وجود عصبية أمازيغية كما شرح ذلك ابن خلدون وفصله تفصيلا دقيقا، بدأت بعصبية إيزناگن في تأسيس المرابطين، وعصبية إيمصمودن، في بناء دولة الموحدين، وعصبية إيزناتن في بناء المرينيين، دون الحديث عن دولة بورگوطة بتامسنا وامارة بني ايفرن وامارة أوربة (المعروفة بالأدارسة) وكتامة وغيرها… فهل يمكن لنا الجزم في كون العصبية الامازيغية تلاشت في سياق ظهور دولة السعديين التي قيل أنها اعتمدت على عنصر النسب الشريف؟ أم أن العصبية الأمازيغية في زمن ظهور السعديين اتخذت لبوسا آخر للتعبير عن العصيبة بحيوية أكثر ولتوظيفها بشكل سليم تماشيا مع السياق المغربي آنذاك الذي يعيش ظرفية صعبة جدا، بسبب الاحتلال البرتغالي والاسباني لمعظم مرافئ المغرب ومدنه الساحلية… فهذا تحول بنيوي ساهم في تغيير المنطلقات السياسية والثقافية والاجتماعية في المجتمع المغربي، بل ساهم أيضا في خلق أزمة ضمير لدى المغاربة كما أكد ذلك المؤرخ أحمد بوشارب في دراساته القيمة حول تاريخ احتلال البرتغال للسواحل المغربية خاصة في دكالة.

إن السؤال الذي تنطلق منه هذه الورقة، هو كيف تحولت فكرة تأسيس الدولة في المغرب من العصبية الامازيغية في العصر الوسيط، إلى فكرة الزاوية أو المتصوفة/ إفقيرن ثم إلى عنصر النسب الشريف؟ بتعبير آخر كيف تم الانتقال من دولة إيمغارن إلى دولة إفقيرن؟ من دولة القبيلة إلى دولة الزاوية؟ وإلى أي حد يمكن التسليم بوجود هذا التحول؟ بمعنى كيف يمكن الانتقال من عصبية أمازيغية المبنية على قوة العتاد والجموع والجيوش أي قوة الجماعة/ تامونت، إلى فكرة بناء الدولة من قوة الفرد أي شيخ الطريقة الصوفية أو النسب الشريف لصاحب الدعوة؟
إن فهم مسار هذا التحول بناء على عامل واحد، لا يمكن أن يفيد عمل المؤرخ في التفسير والتأويل، لأن انطلاق فكرة بناء دولة لتوحيد المغرب من نفس المنطقة، سواء في مرحلة المرابطين، والموحدين والسعديين والسملاليين، وهي منطقة سوس وجزولة تحديدا، (كون المهدي ابن تومرت مؤسس الموحدين ينتمي لمجال جزولة)، يفرض علينا فهم التحولات الكبيرة التي عرفها هذا المجال، لاسيما حلف تاكيزولت، أو الحلف الصنهاجي الأمازيغي الكبير في جبال الأطلس الصغير، الذي تشكل منذ أبعد الفترات التاريخية، قبل وصول الإسلام بقرون، وهو ما نجده لدى المؤرخين القدماء بتسمية الجيتول. فانهيار حلف تاكيزولت الذي أرجعه المختار السوسي حسب أبحاثه إلى القرن 14 م بسبب الطاعون الأسود وما خلفه من مجاعات وأوبئة أخرى، واقتنع المؤرخ أزايكو بهذه الفكرة في مقالة له حول حلف تاكيزولت، وبالتالي فما تبقى من هذا الحلف في القرون الماضية ما هو إلا تعبير وامتداد لهذا التحالف السياسي، أما وجوده الفعلي فقد تراجع بشكل كبير إن لم نقل اضمحل منذ القرن الرابع عشر الميلادي. لذلك فظهور دولة السعديين التي انطلقت من جبال جزولة كان بعد هذه المرحلة التي عاشها التحالف السياسي والاجتماعي تاكيزولت الذي يتأسس على العصبية الأمازيغية الجزولية، يسميها المختار السوسي بالنحلة… لكن في غطاء آخر وبتعبير جديد وهو الطريقة الجزولية التي أسسها سيدي حماد أوسليمان الجزولي ابن منطقة بومروان بايداوسملال ودفين مراكش حيث يعتبر من سبعة رجالها الكبار. فكيف تم هذا التحول من العصبية إلى الصوفية، من تاگيزولت/ جزولة النحلة، الحلف السياسي والقبلي، إلى تاكيزولت/ جزولة الصوفية، أو جزولة الطريقة. وقد عبر الكثير من الباحثين على هذا التحول، بكون المغاربة استبدلوا “العصبية بالدين” عن طريق تبني مفهوم الجهاد للتصدي للاحتلال الإيبيري والبرتغالي تحديدا…
ويبدو أن هذا التحول، هو الذي يسميه المؤرخ “محمد القبلي” ب”الحقيقة المعقدة”، والتي ظلت مستعصية على الباحثين والمؤرخين، والمرتبطة أساسا بتطور نشأة هيكل وأدلوجة الدولة المغربية.
إن فهم هذا التحول، يقتضي بالضرورة فهم السياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لبلاد جزولة، خلال العصر المريني والفترة المتأخرة منه، وكيف تأسست الطريقة الجزولية للتعبير عن الرفض لسياسة المرنيين تجاه أشراف فاس وتطوان ومدن المخزن المريني، كنوع من التحدي وإعلان المواجهة من طرف أقطاب صوفية جزولة مع المخزن المريني وشرفائه الجدد الذين تم تنظيمهم في نقابات وتجمعات يمنحها المخزن الكثير من الامتيازات المالية والضريبية، وفي هذا السياق تم اكتشاف ضريح ادريس الأول في جبل أزروون/ زرهون.. وأيضا بداية احتفال المغاربة بذكرى المولد النبوي واعتمادها بشكل رسمي من طرف سلاطين بني مرين… وكان هؤلاء يبجلون الشرفاء للتغطية على ضعفهم الأيديولوجي، لأن وصولهم إلى الحكم لم يكن بالدعوة الدينية وإنما كان فقط بسبب العصبية الأمازيغية. وحاولوا تغطية ذلك، لاسيما بعد اسقاطهم للموحدين، عن طريق بناء المدارس الدينية واستقطاب الشرفاء ومنحهم الامتيازات الكبيرة.. (محمد القبلي مساهمة في التمهيد).
قال محمد العربي الفاسي في “مرآة المحاسن من اخبار الشيخ أبي المحاسن”: ” سمعت قديما: كان السلطان محمد الشيخ، ماهد دولة الشرفاء، يتوهم من مشايخ الفقراء، لدخوله للملك من بابهم”. من خلال هذه الشهادة يتبين فعلا أن دولة الشرفاء السعديين قامت على أكتاف فقراء وصلحاء الطريقة الجزولية. ومعلوم تاريخيا دور صلحاء جزولة في استقطاب وبيعة أمراء السعديين الأوائل وخاصة منهم “محمد أمغار أسعدي المعروف في المصادر التاريخية بالشيخ السعدي، وكانت بيعته باللغة الأمازيغية في قرية تيدسي بنواحي تارودانت. وقد عاصر لحظة تأسيس دولة إسعدين/ السعديين، كل من القطب سيدي حماد أموسى وسيدي محمد بن مبارك الأقاوي وبركات بن محمد بن ابي بكر التيدسي، وهؤلاء كانوا من أقطاب الطريقة الجزولية التي عرفت انتشارا كبيرا في سوس ودكالة وكل مناطق المغرب، ويعد اتباعها بالآلاف، ( أحمد الوارث: الطريقة الجزولية..) ولذلك نجحت دولة السعديين في مراحلها الأولى لأنها اعتمدت عليهم، لاسيما بعد توظيفها للجهاد في دعوتها السياسية.
غير أن الباحث لطفي بوشنتوف، طرح مقاربة أخرى في شرحه لأسباب نجاح السعديين في وصولهم للحكم، بالرغم من أنه لم ينف قوة دعم فقراء جزولة لهم، إلا أنه أضاف عامل قوة جديد وهو دور علماء سوس في قيام الدولة، في أطروحته الموسومة بعنوان: “العالم والسلطان”. ومن بين أهم هؤلاء العلماء الحسن التملي الجزولي، واحمد المسجدادي التزركيني الجزولي، ومحمد بن إبراهيم التمنارتي وعبدالله المضغري و علي السكتاني..وآخرون، غير أن دور علماء سوس في قيام دولة السعديين المرتكزة على عصبية سوس، ظهر بشكل جلي وواضح بعد رفض علماء فاس بيعة ملوك السعديين القادمين من بادية سوس، وقد تأخر دخول السعديون إلى عاصمة ملك المرينيين والوطاسيين لسنوات، بسب رفض العلماء بيعتهم ومنهم العالم الونشريسي والزقاق وابن حرزوز… ولذلك احتدم الصراع السياسي والديني بين علماء فاس وعلماء سوس. ولم يتمكن الشيخ السعدي من دخول فاس بعد حصار طويل، إلا بعد اغتيال مفتيها العالم عبدالواحد الونشريسي… ولهذا السبب تخلى السلطان الشيخ السعدي عن اتخاذ فاس عاصمة لملكه واختار تارودانت. ولم يستسغ علماء فاس وأهله صعود دولة من بادية سوس، يتزعمها الصلحاء والعلماء، وكان من بين علماء سوس المناصرين لمحمد الشيخ/ أمغار السعدي، من كان من تلامذة علماء فاس سابقا، وقد استهزأ هؤلاء العلماء من ملابس السلطان ومناصريه من الفقهاء والعلماء والصلحاء، وحذر العالم حرزوز أهل فاس من مغبة انتصار بداوة الجنوب وسذاجتهم على حضارة وعمران فاس في وصف شيعة محمد الشيخ: “بالقوم الذين يلبسون الأردية والأكسيا ويركبون الأنجيا ويبدؤون في جوابهم بويلهم ميا”. كناية عن استهجانه وتحقيره لباس ومركوب ولسان السعديين، (أنظر ل. بوشنتوف). الذين كانوا يتحدثون الأمازيغية.
إن رفض علماء فاس بيعة سلاطين السعديين وعدم قبولهم وساطة ووجاهة علماء سوس، نابع من كون عصبية الدولة السعدية تتأسس على عصبية جزولة / سوس، ويظهر لنا ذلك بوضوح في رسالة السلطان محمد الشيخ السعدي إلى قبائل أهل سوس يطمئنهم فيها على مصالحهم المكتسبة، مخاطبا إياهم: “إلى كافة قبائلنا، أولي السابقية لدولتنا الشريفة وأنصارها المستضيئين العلماء والصلحاء والأشياخ والأعيان والرؤساء وسائر الخاصة والعامة من أهل بلادنا السوسية…”.

كما وجبت الإشارة إلى أن هذا الصراع بين علماء فاس وعلماء سوس على بيعة السلطان محمد الشيخ السعدي، يخفي صراعا ثقافيا ودينيا حول العرف والشرع،. وقد جرى الاختلاف بين علماء فاس وعلماء سوس حول اجتهاد يتعلق بالانصافات أي العقوبة بالمال، أثناء حصار السعديون لفاس، وقد احتد الصراع بين الطرفين حول استعمال الأعراف الأمازيغية والشرع على مشارف أسوار فاس، وانتصر علماء سوس للعرف الأمازيغي. ” كما أن الواقعة أكدت لعلماء فاس، حقيقة مروعة، وهي أن السلطان السعدي والعلماء الذين ساندوه ومن سبقه، لم يخفوا تفهمهم لسريان الأعراف والأحكام والتنظيمات المحلية، بل ولم يمانعوا في تحويلها من ضوابط شفوية إلى ألواح مدونة”. (ل. بوشنتوف)، وقد أكد لنا “حسن الوزان” نفس الأمر حين حل بسوس ولاحظ أن جل القبائل يحتكمون للأعراف والألواح. ونستشف من خلال هذا الكلام، أن لعلماء وفقهاء دولة السعديين دور كبير في انتشار الألواح العرفية المنتشرة في سوس، وتحويلها من قوانين ودساتير شفوية إلى ألواح مكتوبة ومدونة.. (صراع العرف والشرع، لازال مستمرا إلى اليوم، وظهر بشكل علني أثناء اصدار الحماية الفرنسية لظهير 16 ماي 1930 الذي سمته بعض الأوساط الحضرية ب”الظهير البربري” سنة 1930 الذي استغله نخب فاس وسلا وتطوان لتأسيس الحركة الوطنية، وجدد الصراع بين الامازيغية والسلفية والوطنية).
وبعد تمكن أهل سوس من السيطرة التامة على جميع مناطق المغرب، تحت راية الدولة السعدية، عاد علمائها وفقهائها إلى البادية وإلى ناحية جزولة، واعتنوا بتأسيس المدارس العلمية، التي تسمى بالمدارس العتيقة التي تنتشر في كل بوادي سوس، من بين أسباب تأسيسها هو امتدادات الصراع حول الحكم بين علماء سوس وعلماء فاس، وكان لها دور سياسي كبير يتجاوز وظيفتها التعليمية والدينية. ونفس الوظيفة السياسية كانت لدى “جمعية علماء سوس” التي أسسها العالم والمؤرخ “المختار السوسي” بعد الاستقلال، وكان دورها حاسما في تأسيس وبناء المعهد الإسلامي بمدينة تارودانت، لمنافسة دور جامعة القرويين بفاس، وكان علماء سوس قد لاحظوا هيمنة أهل فاس وأبناء عائلاتهم على مناصب الدولة بعد الاستقلال، خاصة الوزارات والقضاء والتعليم، وسارعوا إلى بناء المعهد في تارودانت لتكوين الأطر من أبناء بوادي سوس، وقد تخرج منه الكثير من رجال الدولة في القضاء والأوقاف والتعليم والتدريس والقانون..
هل يجوز لنا القول بكون تحالف الفقراء/ الصلحاء مع العلماء، أدى إلى تجاوز المنطق الخلدوني في تأسيس الدول الأمازيغية المغربية، دولة السعديين؟ كيف تمكنت سوس من استيعاب الفكر السياسي الديني ودمجه مع الفكر السياسي الامازيغي/ العرف الامازيغي، الطرق الصوفية…؟
فعلا لا يجوز لنا ذلك؟ لأن عصبية ابن خلدون حاضرة وبقوة في قيام الدولة السعدية من سوس وجزولة، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، ولكنها اتخذت شعارات دينية وسياسية أخرى، وهي الطرق الصوفية والنسب الشريف.. وهي عبارة عن مقومات المشروعية السياسية والدينية بمنطق مغرب القرن 15 و16. وهي ما يتم التعبير عنه في نظرية قيام الدول عند ابن خلدون بالدعوة.
غير أن ابن خلدون ينظر إلى الدعوة الدينية شرط نجاح فقط لا شرط ظهور ووجود… لذلك قلنا أن دور الصلحاء والعلماء منذ زمن “المرابطون”، يقتصر أساسا على إطفاء الشرعية الدينية والسياسية، أو ما يسمى بالأدلوجة، أو أيديولوجية قيام الدولة أو اسقاطها.
وحين نعود إلى أهم الحركات التي أسست الدول الامازيغية الكبرى، نرى أن منطقة سوس وجزولة تحديدا، هي التي تأخذ زمام المبادرة في بروز الدعوة إلى قيام الدولة. لذلك؛ لابد من البحث عن أسباب ذلك والعوامل البنيوية التي تجعل من منطقة جزولة مهدا للحركات الدينية والسياسية، بدءا بوگاك بن زلو اللمطي، وعبدالله بن ياسين، ومحمد بن سليمان الجزولي، وسيدي حماد أموسى، وسيدي محمد بن مبارك الأقاوي، وأبي حسون السملالي…إن أسباب نهوض هؤلاء يتجاوزهم كأشخاص وكحركات دينية، ويفرض علينا الغوص في خصوصيات ومميزات المجال والانسان. لأن ليس كل حركة سياسية هي في العمق حركة دينية…

إننا نعلم أن نجاح دولة الملثمين/ صنهاجة، مرتبط أساسا بالازدهار الاقتصادي والتجاري الذي حققته قبائل لمتونة گدالة/ إگدالن، ومسوفة/ إيمسوفن، بفضل انتعاش عائدات تجارة الملح الذي يتم استخراجه في ممالح تيغزا/ تيغازى، خاصة في التجارة مع بلاد السودان، وقد صادف هذا الازدهار تغييرا في محاور التجارة الصحراوية، بدءا من القرن 10 م، حيث تغير المسلك التجاري المشرقي في اتجاه مصر إلى المغرب من الصحراء عبر سجلماسة، او ما يسمى بالطريق المغربي، في خضم هذا التحول التجاري، نهضت قبائل صنهاجة الصحراء إلى الاستفادة من عائدات التجارة البعيدة المدى، فدولتهم كانت في البداية دولة الملح والتجارة، لذلك زحفوا نحو سجلماسة مباشرة ثم نحو مدينة أغمات قبل تأسيسهم لمدينة مراكش. ومن أجل تبرير غزوهم لسجلماسة التي توجد تحت حكم الإسلام، لابد لهم من دعوة دينية لتطفي على زحفهم المشروعية السياسية والدينية، لذلك تم استقطاب عبدالله بن ياسين بتوجيه من شيخه وتلميذه سيدي وگاگ، الذي كان يدعو للمذهب المالكي. وقد اتضحت حاجة أمراء صنهاجة لفقهاء جزولة وگاگ وعبدالله بن ياسين في حروبهم مع بورغواطة التي استشهد فيها عبدالله بن ياسين الذي دفن في منطقة كريفلة/ إيگر أوفلا بضواحي مدينة الرباط.. لذلك، فالدعوة الدينية كما يقول ابن خلدون هي شرط نجاح وليست سبب ظهور، كما يعبر عبدالله العروي عن نفس الخلاصة، بقوله: “سنذكر باستمرار أن الدوافع في التاريخ، القوى المحركة، هي دائما من وفي المجتمع، قاعدته ومقوماته”(مجمل تاريخ المغرب).
ونفس الأمر حصل أثناء قيام دولة السعديين في سوس، حيث سادت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وكسدت التجارة والتعدين، في المنطقة بسبب ضعف دولة الوطاسيين ووصول البرتغاليين إلى سواحل سوس، وبناء قصبة سانتاكروز بمدينة فونتي أگادير، وسيطرتهم على التجارة والملاحة، وكان لابد من بروز قوة سياسية للدفاع عن المنطقة، وكانت دولة السعديين انطلقت بفضل عائدات المناجم المنتشرة في جبال جزولة…(أنظر التمنارتي)..
وقد ذكر البكري أن أهل سوس يمتهنون التجارة والتكسب، والأنشطة المرتبطة بها كالزراعة والفلاحة والتعدين، وقد اهتم المرابطون باستخراج المعادن في جبال جزولة منذ بداية عهدهم، وقد تمكنوا من صك عملتهم من مدينة نول لمطة، ضواحي اگلميم حاليا، وازدهار هذه المدينة التي كانت عاصمة التجارة الصحراوية على عهدهم، يؤكد أن دولة المرابطين تمكنت من التحول من الامارة إلى الإمبراطورية بفضل التجارة والمعادن، ونفس المسار اتخذته دولة السعديين، فقط انتقلت من دولة صغيرة في سوس، فرض سلطانها الأول محمد الشيخ السعدي، بعد فترة والده، عائدات وضرائب على المناجم المتواجدة في جبال الأطلس الصغير، بين تارودانت وتامدولت، وتحولت إلى امبراطورية سياسية وتجارية كبيرة يحمل سلطانها لقب الذهبي، وهو احمد المنصور الذهبي الذي تمكن من الوصول إلى منابع التبر في السودان…

صفوة القول، إن الإمارة لا تتحقق في جزولة إلا بالتجارة، لكن الإمارة في حاجة إلى الدعوة الدينية، لذلك يظهر دور الصلحاء والعلماء في سوس، الذي يتجاوز دورهم الديني التقليدي، حيث كانت لهم وظائف أخرى في تاريخ سوس والمغرب بشكل عام تتجلى أساسا في بناء المشروعية السياسية والدينية للحركات السياسية التي تحمل مشاريع سياسية كبرى في توحيد بلاد المغرب والصحراء.
يظهر في الصورة أسفله، العالم الجليل، فقيه مدرسة سيدي حماد أموسى، الأستاذ والمؤرخ سيدي عبدالله توفيق، والصالح الفاضل، أمزوار ورئيس إفقيرن إيداولتيت سي محمد بلقظيب أماسين، والصورة تم التقاطها على ما يبدو أثناء زيارة إفقيرن ايداولتيت لزاوية سيدي حماد أموسى.
عبدالله بوشطارت
صحفي وباحث في التاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى