أفاگو/ أسلوب مقاومة نسائية على درب العيش بالقناع…

قال هيرودوت “اقتبس الأغريق عن الليبيين لباس ودرع أثينا، غير ان لباس الليبيات مصنوعة من جلد الحيوان. واما الأهداب المدلات من الدرع ليست ثعابين. ولكنها عبارة عن سيور جلد الحيوان. واما فيما عدا ذلك، فالملابس والدروع متشابهة. بل ان الاسم الذي يطلق على دروع (البالاديات des palladias) ثماتيل اثينا آت من ليبيا لان الليبيات يضعن فوق ملابسهن جلود ماعز خال من الشعر، محاط باهداب مصنوعة من اللون الأحمر. فمن هذه الايجيات (Egges) الليبيات استخرج الأغريق اسم ايجيد (egide) اي الدرع. واعتقد ايضا انه انطلاقا من هنا استعملت الأصوات الرقيقة في الاصوات الدينية، لان الليبيات يعملن دائما من اجل سماع هذه الأصوات السجية التي يتقننها. ومن الليبيين ايضا تعلم الأغريق قياد العربات دات الخيول الاربعة” انتهى كلام أب التاريخ هيرودوت، في فقرة 189 من كتابه التواريخ. واقام الدليل والحجة على قومه الاغريق حينما اقر بعمليات الاستيراد الثقافي التي قام بها الأغريق من الثقافة الأمازيغية. انظر أحاديث هيرودوت عن الليبيين، (الامازيغ)، ترجمة وتعليق وشرح، مصطفى أعشي.
وقبل الخوض في هذا الموضوع تجدر الإشارة الى ان ما يقصد به هيرودوت هنا بالليبيين هم سكان شمال افريقيا من واد النيل شرقا الى المحيط الاطلسي غربا، ونسجل بالتالي هنا تهافت المحاولات التي قام بها المرحوم علي فهمي خشيم حين اجتهد وعرق في سبيل ربط نصوص هيرودوت بالليبين الحاليين. وهي أطروحة تفندها نصوص هيرودوت نفسها.
لنرجع الآن الى النص الذي استهلنا به هذا الكرونيك التاريخي ومناسبته هو ما ذهبت إليه إحدى المستلبات ممن يعشقن تزوير التاريخ وبناء الاوهام وتسويق الاراجيف واحتراف التسول والتزلف للغير مقابل دراهم معدودات. فالمتسول ان اعطيته مدحك، وان اعرضت عنه سبك وانقلب عليك في رمشة عين.
الحايك لباس امازيغي شمال افريقي نسجت خيوطه عبر زمن طويل وهذا هو سر أصالته وقوته، وتجدره في منظومة اللباس المحلية، نعم، هنالك اختلاف طفيف بين الحايك او افاگو من منطقة جغرافية الى أخرى ومرد ذلك الى اختلاف وتنوع مناخ شمال افريقيا، ومن حسنات التاريخ الجديد ان فتح الباب على مصراعيه امام دارسة مثل هذه المواضيع من طرف المؤرخين وهم وحدهم المؤهلين لدراسة مثل هذه القضايا شريطة ان يحسنوا استغلال تقنيات ومناهج اشتغال العلوم الجاورة لحقل التاريخ ومنها على الخصوص علوم الاناسة، علم المناخ او الميتوغولوجيا، السوسيولوجيا، الاركيولوجيا، واللسانيات التاريخية/الفيلولوجيا. هذه العلوم تمكن المؤرخ من النفاذ الى عمق الوثائق المادية من لقى اثرية ومنظومات الكتابة وغيرها من الدلائل التي تزيد من قوة وتماسك الفرضيات البحثية وبالتالي اضفاء مصداقية كبيرة على الخلاصات والنتائج المحصل عليها في النهاية. اما ماعدا ذلك فمحض ضرب فوق سطح المياه… فشكرا لك يا ف. بروديل، وانت كذلك يا جاك لوغوف…
السؤال المطروح الآن هو، لماذا، وكيف ومتى ارتدت النساء الأمازيغيات الحايك؟. هي اسئلة وليست مجرد سؤال واحد!!
لا شك ان الجواب على هذه الأسئلة موجود في التاريخ، وجزء منها اورده هيرودوت، ما يجعلنا نتعرف معه نحن اجيال اليوم على طرق لباس الأمازيغيات وكيف كن يلبسن، كما يجرنا ذلك الى التعرف على علاقة لباسهن بلباس نساء الاقوام الاخرى ومنها بطبيعة الحال الاغريقيات وبعد هن الرومانيات والبيزنطيات ثم العربيات وغيرهن… الجزء الثاني من الجواب نعثر عليه في سياق كتب الاخباريين والذين تحدثوا عن غزوات جيوش العرب لشمال افريقيا، وسجلوا ما اقترفه هؤلاء في حق سكان هذه الربوع، التي عرفت اقوى عمليات الاسترقاق البشري في التاريخ، فالسبي الذي تعرضت له نساء شمال افريقيا حتم عليهن البحث عن اساليب لوقاية انفسهن من السبي وتجنب البيع في اسواق النخاسة البشعة في الشام وبلاد الرافدين- العراق الحالية، وهنا نسجل ان ام ملك عباسي مشهور كانت اسيرة امازيغية استرقت /سلبت في احدى المعارك في المنطقة وذهب بها إلى احد اسواق النخاسة في الشرق، ومنه ولحت بلاط الحكم وكان قدرها ان اصبحت فيما بعد ام ملك، ولكن قبل ذلك رأت ما رأت من الاهوال والمهالك التي لا تعد ولا تحصى…. انه اذن الوجه الآخر للمأساة الإنسانية…
قلت ان النساء الأمازيغيات اضررن الى ابداع تقنيات خاصة بهن قصد تخفيف اعداد السبي في صفوفهن ومن هذه الاساليب تغطية الجسد بالكامل بقماش ابيض او اسود لكي لا تظهر ملامحهن ويكتفين باظهار العينين فقط، وكل ذلك وهن يحاولن تجنب الامر العسكري الذي أصدره عبد الملك لزبانيته في شمال افريقيا عندما امرهم بأسر كل امرأة امازيغية جميلة وفاتنة، ورسالته في ذلك مشهورة ومنشورة في كتب الاخباريين… ونسجل هنا اختلاف الحايك في هذه الفترة مع الفترة التي تحدث عنها هيرودوت والتي عرفت حسب نصه ابداعا كبيرا في نسج الألبسة النسائية وغيرها، كما يخبرنا نصه بدرجة تطور كيمياء الالوان(خاصة اللونين البنفسجي والاحمر) في شمال افريقيا وهذا ما أشرنا اليه في كرونيك سابق. اذن فالحايك في سياقه التاريخي هذا لباس نسائي املته ظروف المقاومة كما يندرج كذلك حسب علماء الاناسة في أساليب العيش بالقناع اثقاءا لشر محدق بنوع احتماعي هش مهدد بسبب وجود سلطة عسكرية قاهرة معروفة في سياق احداث تلك الفترة… وهنا يمكن ان نستحضر نماذج من التاريخ النسائي المغربي المقاوم للسبي والاغتصاب، ومنها ما هو مرتبط باحداث ما عرف بتهدئة المغرب او (la pacification du Maroc) من طرف القوات الفرنسية، ومن بين هذه الوقائع ما حكاه جندي فرنسي عندما اقتحموا منازل الامازيغ في جبال الأطلس الكبير الغربي والشرقي بعد ان هزموا جيوش القبائل، ان النساء لكن يعمدن الى حيل ذكية لوقاية انفسهن من الاغتصاب بحيث انهن كن يعمدن إلى غمس اجسادهن في روط البهائم (Amazir) في منظر اثار اندهاش الجنود الفرنسيين وقاموا بتدوينه في يومياتهم المغربية في القبائل.
بالعودة الى نص هيرودوت، نكتشف حقائق تاريخية في غاية الأهمية، حقائق لا تتعلق فقط باللباس وكمياء الالوان، بل تتعلق كذلك حسب بعض الدارسين المغاربة بأنماط الممارسات الدينية النسائية في مجتمع امازيغن، ومنها الاصوات السجية، التي قد المقصود بها تاغريت، وهي التي قد يكون هيرودوت تحدث عنها من تيزرارين ن تمغارين وهذا النوع من الغناء مازال موجودا في قبائل جبال درن، وايت باعمران، وجبال اگيزولن في الأطلس الصغير ومنهم ابودرارن، وقبائل ازغار ن تزنيت او ازغار ن تاسرا وماست وأشتوكن ن القبلة وغيرها من قبائل سوس. كما يذكرنا كذلك نص هيرودوت بعمليات التثاقف والاقتباس الثقافي الذي حصل بين الامازيغ والاغريق والذي ادى الى استعارة الالاه الأمازيغي المعروف بوصيدون وهو الإله البحار من طرف الاغريق وهنالك اليوم من حسم في الأصل الإغريقي لهذا الاله وهذا غير صحيح حسب هيرودوت نفسه، اضافة الى اقتباسهم لدرع اثينا من شمال أفريقيا وهنالك ارتباط وثيق بين هذه الدروع والاله اثينا التي قد تكون اصولها اصول امازيغية حسب بعض الدارسين. كما ان “الايجيد” وهو سلاح مصنوع من جلد الماعز، ويعتبر أقدم سلاح استعمله الإنسان، فقد اقتبسه الاغريق من الأمازيغ، وقد سبق لمحمد شفيق ان اورد ان العربة التي كانت تجر بأربعة خيول كانت اختراعا امازيغيا محضا.
اذا كان هذا هو ما تفصح عنه النصوص التاريخية فكيف يستقيم اليوم ان نصدق ان نساء شمال افريقيا لم يبدعن ألوانا ولم يقاومن سبيا ولم ينسجن حيكا اتقاءا لأسر ملفوف برسالة نبيلة وتجنبا للاسترقاق وبيع حفاة عراة في أسوق النخاسة السيئة الذكر…. لذلك لا مناص ان نقول لتلك التي نسبت لباسا مقاوما خاصا بنساء من المنطقة دون غيرهن من نساء الاقطار الاخرى، انك اقترفت بهتانا ومارست اراجيفا سرعان ما ستسقط سقوطا حرا اشبه بسقوط اوراق الخريف.


الحسين بوالزيت صحفي

وباحث في التاريخ

الأخبار ذات الصلة

المزيد من الأخبار جار التحميل...لا يوجد المزيد من الأخبار