كنت قد قرأت كتابا لفرانسيس فوكوياما عنوانه ” الثقة، الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي”، وراقني الكتاب بشكل مثير بالرغم من كبر حجمه، واستفدت منه كثيرا، بحكم الأفكار والنظريات التي يناقشها الكتاب والنماذج التي يعرضها وحجم المعطيات والمعلومات التي يضمها. وفوكوياما معروف في العالم بنظرياته ومناهجه وأسلوبه الدقيق في التحليل والمقارنات والتفسير.
وأنا اقرأ صفحات الكتاب، تبلورت في ذهني فكرة أساسية، وهي الثقة كرأسمال رمزي ودورها في نجاح التجارة والاستثمار لدى تجار سوس. وما أن أتممت قراءة كتاب فوكوياما، حتى بدأت في كتابة مقالة موسومة بعنوان “أسباب نجاح السواسة في التجارة والسياسة”، وهي منشورة في العديد من المواقع الصحفية الالكترونية والصفحات على منصات التواصل الاجتماعي، وركزت فيها على مفهوم الثقة التي تعتبر أساس البناء والانطلاق لدى التجار السوسيون لخلق الثروة والرأسالمال…
بعد ذلك، وفي سنة 2019، قررت انجاز برنامج وثائقي حول إفقيرن إيداولتيت بنواحي تزنيت، وهي الفكرة التي كانت تراودني منذ سنوات، وأنا أمشي في منبسط المعدر في اتجاه زاوية سيدي سعيد أوهمو شيخ الدرقاويين بالمعدر، برفقة أحد فقراء إيداولتيت، حيث رافقتهم في سفرهم المقدس، وأطرح بعض الأسئلة حول مسارات وبعض الطقوس التي يزاولها افقيرن في بعض المزارات، وكانت أسئلة تهم الجانب الانثروبولوجي الخفي من هذا التجوال المفعم بالقداسة والرموز والاسرار… كنت مع ثلة من الفقراء، ولكن مع سرعة المشي على الأقدام بين احراش ازغار، اخترت أن أنجز هذا الحوار المتحرك مع أحد الفقراء القادم من إيداگوكمار، وكان يشارك في سفر افقيرن أكثر من 30 سنة… كل عام يشد الرحال إلى التجوال المقدس بين تلال جزولة، مشيا على الأقدام… بالرغم من كبر سنه، سألته لماذا تمشون بهذه الوثيرة السريعة… أجاب، أن عليهم الوصول إلى دوار يوجد قبل مركز المعدر قبل أذان صلاة العصر…
من بين ما استخلصته في الحوار والنقاش مع هذا الفقير، هو مفهوم البركة، والذي يعتبر المحرك الأساسي للمرجعية التي تتأسس عليها منظومة إفقيرن، بل تشكل البركة إحدى أسباب نزول ونشوء هذه المؤسسة، إن صح التعبير، لأن افقيرن إيداولتيت ليست طائفة كما يحلو البعض تسميتها، وإنما هي مؤسسة قائمة ذات الوظائف والأبعاد المتعددة، اجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية، لأنها مؤسسة تجمع الكثير من الظواهر الثقافية ذات شبكات دلالية ورمزية متداخلة… وما أثارني في الاجوبة التي يقدمها الفقير الذي ارافقه، في حوارنا الامازيغي المفتوح، وأنا احاوره كباحث في التاريخ والانثروبولوجيا، وليس كصحفي ينجز عملا مهنيا فحسب، فبقدرما اعتمد على الخلفية التاريخية والعدة المعرفية والمنهجية، فإنني اتحدث معه أيضا كباحث ملاحظ.(كليفورد كيرتز).
فاجأني، رفيقي الفقير، حين قال، ونحن نناقش مفهوم البركة، إن تجار هذه المناطق( يقصد إيداولتيت) ينجحون في تجارتهم واعمالهم في جميع مدن المغرب والخارج، وتزدهر كل الأنشطة الاقتصادية التي يزاولونها، بفعل بركة افقيرن إيداولتيت. نظرت إلى الرجل، قلت له، كيف ذلك؟ وماذا تقول؟
اجاب: إننا ندعو لهم في كل منطقة نقف فيها، وفي كل دوار نصل إليه، وفي كل مزار نمكث فيه، فإننا ندعو دائما لتجارنا أينما كانوا وكيفما كانت حجم تجارتهم، الكبير والصغير.. اراسن تدعو اداسن ايسخر ربي….
وهل هؤلاء التجار يعلمون بهذا الدعاء وبهذه البركة التي تتحدثون عليها… ؟
طبعا، وبكل تأكيد، هم يعلمون بذلك، ومنهم من يحرص على المجيء إلى دواره حين يعلم بوصول افقيرن، منهم من يأتي من الدار البيضاء والرباط واكادير…. يفتحون لنا بيوتهم ويشاركون معنا الطعام والدعاء.. بل في السنوات الماضية كان الشباب الذين ينوون الهجرة إلى الغرب، لمزاولة التجارة، كانوا ينتظرون مرور افقيرن في الدوار حتى يتمكنون من حضور الدعاء وينالون البركة قبل مغادتهم للديار….
اذا كانت للثقة دور كبير في خلق الثروة والرخاء، فإن لبركة افقيرن إيداولتيت كل الدوافع والحوافز العميقة والقوية للنجاح في ذلك….
عبدالله بوشطارت.
صحفي وباحث في التاريخ..