
في ظل التنافسية المتزايدة التي يشهدها مجال الإنتاج التلفزيوني، أصبح النقد التلفزيوني ضرورة لا غنى عنها، ليس فقط بوصفه وسيلة لتوجيه الجمهور نحو تقييم أكثر دقة للأعمال الفنية، بل أيضا كأداة أساسية لتحفيز صناع المحتوى على تحسين جودة إنتاجاتهم. لكن النقد في هذا المجال لا يمكن أن يكون مجرد آراء عابرة أو انطباعات شخصية، بل يجب أن ينبني على خلفيات موضوعية تستند إلى معايير واضحة، حتى لا يتحول إلى مجرد انحيازات ذاتية تفقده قيمته الحقيقية. من هنا، يصبح الحديث عن النقد التلفزيوني من منظور عقلاني وموضوعي أمرا في غاية الأهمية، خصوصا في ظل التأثير الواسع الذي تمارسه المنصات الإعلامية الحديثة على صناعة الرأي العام.
إن النقد التلفزيوني، كأي ممارسة نقدية أخرى، يجب أن يستند إلى قواعد محددة تعطيه مشروعيته ومصداقيته. فهو ليس فعلا اعتباطيا أو عملية قائمة على الذوق الشخصي، بل هو تحليل يعتمد على تفكيك العمل الفني من حيث بنيته السردية، تقنياته البصرية، جودة التمثيل، الإخراج، الإيقاع السردي، ومدى انسجام هذه العناصر فيما بينها. فعندما ينظر إلى عمل تلفزيوني ما، لا يجب أن يكون الحكم عليه نابعا فقط من مدى إعجاب الناقد به أو نفوره منه، بل من خلال دراسة جادة تستكشف مكامن القوة والضعف فيه بطريقة موضوعية. بهذا الشكل، يتحول النقد من مجرد إصدار أحكام عامة إلى عملية تفسير وتحليل تسهم في تطوير الفهم الفني لدى الجمهور وصناع المحتوى على حد سواء.
الموضوعية في النقد التلفزيوني لا تعني الحياد المطلق أو غياب الرأي الشخصي، ولكنها تستدعي أن يكون الرأي النقدي مبنيا على أسس عقلانية يمكن تبريرها. فالنقد الجيد هو ذلك الذي يمكن دعمه بأدلة من داخل العمل نفسه، سواء عبر تحليل الحبكة الدرامية، أو طبيعة تطور الشخصيات، أو جودة الإخراج والتصوير، أو طريقة توظيف المؤثرات الصوتية والبصرية. حين يكون النقد قائما على هذه الأسس، فإنه يكتسب قوة الحجة، ويصبح وسيلة للفهم وليس مجرد وسيلة للثناء أو الهجوم.
واحدة من أبرز المشكلات التي تواجه النقد التلفزيوني في العصر الحديث هي الميل إلى التسرع في إطلاق الأحكام، سواء بسبب الضغوط الإعلامية أو التأثيرات الجماهيرية. فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بات من الشائع أن يتم تقييم الأعمال التلفزيونية بناء على انطباعات أولية أو ردود فعل فورية دون التعمق في تفاصيلها. في حين أن النقد الموضوعي يتطلب وقتًا لتحليل العمل بشكل معمق، حيث يجب على الناقد أن يشاهد العمل بعين فاحصة، متجاوزا التأثيرات العاطفية أو الآراء المسبقة. لأن الحكم على عمل تلفزيوني دون تفكيك مكوناته الفنية يشبه تماما الحكم على كتاب بمجرد الاطلاع على عنوانه.
في المقابل، هناك اتجاه آخر في النقد التلفزيوني يسقط في فخ الشخصنة، حيث يتحول النقد من تحليل للأعمال إلى تقييم للأفراد الذين يقفون وراءها، سواء كانوا ممثلين، مخرجين، أو كتاب سيناريو. وهنا تكمن إشكالية خطيرة، لأن العمل الفني يجب أن يناقش في حد ذاته، بغض النظر عن خلفيات صانعيه أو مواقفهم الشخصية. فعندما يصبح النقد موجها إلى الأفراد بدلا من الأعمال، فإنه يفقد موضوعيته، ويتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات أو لتمجيد شخصيات معينة على حساب العمل الفني نفسه. هذا النهج لا يخدم تطور النقد، بل يكرس نوعا من الانحياز الذي يضر بالصناعة الفنية ككل.
إن النقد التلفزيوني الفعال يجب أن يكون أيضا قادرا على التمييز بين الأعمال ضمن سياقاتها المختلفة. فلا يمكن مقارنة مسلسل درامي يعتمد على بناء شخصيات معقدة ببرنامج تلفزيوني ترفيهي يعتمد على آليات مختلفة تماما. كما أن الأعمال المنتجة في سياقات ثقافية مختلفة لا يجب أن تخضع لنفس المعايير النقدية، لأن كل عمل ينتج ضمن إطار ثقافي وفني معين يجب أن يقيم بناء على الأسس التي وجد فيها. وهنا تبرز أهمية المعرفة العميقة لدى الناقد، الذي يجب أن يكون على دراية بمختلف المدارس والأساليب الفنية، حتى يكون نقده منصفا ودقيقا.
الخط الفاصل بين النقد الموضوعي والنقد الذاتي ليس دائما واضحا، لكن يمكن تمييز النقد الجيد من خلال قدرته على بناء حجة متماسكة تستند إلى معايير تحليلية، وليس إلى ردود فعل عاطفية أو انحيازات شخصية. فالناقد الحقيقي هو من يستطيع أن يرى العمل الفني في مجمله، ويحدد نقاط قوته وضعفه بشكل عادل، دون أن يكون متأثرا بحب الجمهور لهذا العمل أو برفضه له. إن مهمة الناقد ليست مجاراة المزاج العام، بل تقديم رؤية تحليلية تساعد على تطوير النقاش الفني، وتفتح المجال أمام الجمهور لإعادة النظر في طريقة تلقيه للأعمال التلفزيونية.
الحديث عن النقد التلفزيوني بعقلانية يقتضي أيضا أن يكون هذا النقد واعيا بتأثيره. فالناقد ليس مجرد متفرج يعبر عن رأيه، بل هو جزء من منظومة إعلامية تساهم في تشكيل تصورات الجمهور حول الأعمال الفنية. ومن هنا تأتي أهمية أن يكون النقد مسؤولا، أي ألا يكون مجرد وسيلة للهجوم أو للمديح المجاني، بل أن يكون أداة لتوجيه الحوار الفني نحو نقاش أعمق وأكثر إثراء. فالنقد المسؤول يتيح للأعمال التلفزيونية فرصة للتطور، ويساعد على خلق بيئة إبداعية تحترم المعايير الفنية، بدلا من أن تكون خاضعة لمجرد أمزجة فردية.
إذا كان النقد التلفزيوني أداة لتطوير المجال الفني، فإنه لا يمكن أن يكون فاعلا إلا إذا كان قائما على خلفيات موضوعية واضحة. النقد ليس مجرد تعبير عن الإعجاب أو الرفض، بل هو تحليل دقيق يأخذ في الاعتبار مختلف عناصر العمل الفني، ويضعه في سياقه المناسب. لهذا، فإن النقد الجيد ليس هو النقد الذي يرضي الجميع، بل هو النقد الذي يقدم رؤية متماسكة تدفع بالنقاش إلى مستوى أعلى. في نهاية المطاف، يمكن القول إن النقد التلفزيوني الحقيقي هو ذلك الذي يحترم العمل الفني أولا، ويضعه في دائرة التحليل العقلاني بعيدا عن التحيزات والانفعالات العابرة.
أريناس نعيمة موحتاين